خطب ومحاضرات

كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ

الصدق

أيها المسلمون:اتَّقُوا اللهَ تعالى حَقَّ تُقَاتِهِ، وَسَارِعُوا إِلى مَغفِرَتِهِ وَمَرضَاتِهِ،{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوااتَّقُوا اللهَ وكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.} وَاعلَمُواأَنَّ الصِّدقَ لَيسَ خَاصًّا بِالقَولِ كَمَا يَفهَمُهُ كَثِيرٌمِنَ النَّاسِ، وَلَكِنَّهُ خُلُقٌ يَتَّسِعُ لِيَكُونَ عَمَلاً قَلبِيًّا يَتعلَّقُ بِالنِّيَّاتِ وَالمَقَاصِدِ، وَجَسَدِيًّا يَظهَرُعلى الأَعضَاءِ وَالجَوَارِحِ، حَيثُ يَتَمَيَّزُ الصَّادِقُ بِالصِّدقِ في النِّيَّةِ وَالمَقصِدِ وَالصِّدقِ في القَولِ والعَمَلِ،فَلا تَرَاهُ مُخَالِفًا لِلحَقِيقَةِ في قَولِهِ،وَلا مُتَحَدِّثًا بما يَعلَمُ أَنَّ الوَاقِعَ خِلافُهُ،

وَلا تَجِدُهُ مُخَالِفًا في عَمَلِهِ لِمَا يَقُولُ وَيَعتَقِدُ، وَلا قَائِلاً بما لا يَستَطِيعُ فِعلَهُ، وَتَرَاهُ إِذَا حَصَّلَ عِلمًا عَمِلَ بِهِ، وَلَزِمَ ذَلِكَ العَمَلَ وَاستَقَامَ عَلَيهِ مَا بَقِيَ حَيًّا، وَالصِّدقُ عَلَى هَذَا مُرَادِفٌ لِلاستِقَامَةِ وَالثَّبَاتِ، وَالصَّادِقُ بِذَلِكَ ثَابِتٌ مُستَقِيمٌ عَلَى الأَمرِ وَالنَّهيِ، لا يَرُوغُ رَوَغَانَ الثَّعالِبِ يَمنَةً وَيَسرَةً، قال سُبحَانَهُ: {لَيسَ البِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُم قِبَلَ المَشرِقِ وَالمَغرِبِ وَلَكِنَّ البِرَّ مَن آمَنَ بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَالمَلائِكَةِ وَالكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى المَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالمُوفُونَ بِعَهدِهِم إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ في البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ البَأسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ،} قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ: "أُولَئِكَ الذِينَ صَدَقُوا أَيْ: هَؤُلاءِ الذين اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ هُمُ الذين صَدَقُوا في إِيمَانِهِم؛ لأَنهم حَقَّقُوا الإِيمَانَ القَلبيَّ بِالأَقوَالِ وَالأَفعَالِ، فَهَؤُلاءِ هُمُ الذِينَ صَدَقُوا، وَأُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ؛ لأَنَّهُمُ اتَّقُوا المَحَارِمَ وَفَعَلُوا الطَّاعَاتِ".وقال سُبحَانَهُ:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُترَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُم لا يُفتَنُونَ وَلَقَد فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبلِهِم فَلَيَعلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعلَمَنَّ الكَاذِبِينَ، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَالفِتنَةُ قَسَّمَتِ النَّاسَ إِلى صَادِقٍ وَكَاذِبٍ وَمُؤمِنٍ وَمُنَافِقٍ وَطَيِّبٍ وَخَبِيثٍ، فَمَن صَبرَ عَلَيهَا كَانَت رَحمَةً في حَقِّهِ وَنجا بِصَبرِهِ مِن فِتنَةٍ أَعظَمَ مِنهَا، وَمَن لم يَصبرْ عَلَيهَا وَقَعَ في فِتنَةٍ أَشَدَّ مِنهَا". فَلا بُدَّ مِنَ المِحنَةِ في هَذِهِ الدَّارِ وفي البَرزَخِ وَفي القِيَامَةِ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَكِنَّ المُؤمِنَ أَخَفُّ مِحنَةً وَأَسهَلُ بَلَيَّةً، فَإِنَّ اللهَ يَدفَعُ عَنهُ بِالإِيمَانِ وَيَحمِلُ عَنهُ بِه، وَيَرزُقُهُ مِنَ الصَّبرِ وَالثَّبَاتِ وَالرِّضَا وَالتَّسلِيمِ مَا يُهَوِّنُ بِهِ عَلَيهِ مِحنَتَهُ، وَأَمَّا الكَافِرُ وَالمُنَافِقُ وَالفَاجِرُ فَتَشتَدُّ مِحنَتُهُ".
أَيُّهَا المُسلِمُونَ، مَا بَلَغَ مَن بَلَغَ مِن مُتَقَدِّمِي هَذِهِ الأُمَّةِ وَلا امتُدِحُوا وَفَازُوا وَأَفلَحُوا إِلاَّ بِصِدقِهِم مَعَ رَبِّهِم وَوَفَائِهِم بما عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ، قال تعالى:{ مِنَ المُؤمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيهِ فَمِنهُم مَن قَضَى نَحبَهُ وَمِنهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبدِيلاً لِيَجزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدقِهِم وَيُعَذِّبَ المُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَو يَتُوبَ عَلَيهِم إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}، وقال سُبحَانَهُ مُمتَدِحًا المُهَاجِرِينَ رضي اللهُ عنهم:{ لِلفُقَرَاء المُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخرِجُوا مِن دِيارِهِم وَأَموَالِهِم يَبتَغُونَ فَضلاً مِنَ اللهِ وَرِضوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، قال ابنُ كَثِيرٍ رحمه اللهُ: " هَؤُلاءِ الذِينَ صَدَّقُوا قَولَهُم بِفِعلِهِم، وَهَؤُلاءِ هُم سَادَاتُ المُهَاجِرِينَ،" وَلَمَّا ادَّعَى قَومٌ الإِيمانَ وَكَأَنَّهُم يَمُنُّونَ بِهِ قال تعالى مُوَضِّحًا حَقِيقَةَ الإِيمَانِ الكَامِلِ:{ إِنَّمَا المُؤمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لم يَرتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَموَالِهِم وَأَنفُسِهِم في سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ}، وَأَمَّا المُنَافِقُونَ الذِينَ هُم في الدَّركِ الأَسفَلِ مِنَ النَّارِ فَإِنَّهُم مَا خُذِلُوا وَلا خَسِرُوا وَلا خَابُوا بِمِثلِ تَقَلُّبِهِم وَتَلَوُّنِهِم وَكَذِبِهِم عَلَى رَبِّهِم وَعَدَمِ صِدقِهِم في عُهُودِهِم، قال سُبحَانَهُ: {إِذَا جَاءكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشهَدُ إِنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيمَانَهُم جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُم سَاءَ مَا كَانُوا يَعمَلُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُم آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِم فَهُم لا يَفقَهُونَ وَإِذَا رَأَيتَهُم تُعجِبُكَ أَجسَامُهُم وَإِن يَقُولُوا تَسمَع لِقَولِهِم كَأَنَّهُم خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحسَبُونَ كُلَّ صَيحَةٍ عَلَيهِم هُمُ العَدُوُّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ وَإِذَا قِيلَ لَهُم تَعَالَوا يَستَغفِرْ لَكُم رَسُولُ اللهِ لَوَّوا رُؤُوسَهُم وَرَأَيتَهُم يَصُدُّونَ وَهُم مُستَكبِرُونَ سَوَاء عَلَيهِم أَستَغفَرتَ لَهُم أَم لم تَستَغفِرْ لَهُم لَن يَغفِرَ اللهُ لَهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ}، وقال جل وعلا: { إِنَّ المُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُم وَإِذَا قَامُوا إِلى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُذَبذَبِينَ بَينَ ذَلِكَ لاَ إِلى هَؤُلاء وَلاَ إِلى هَؤُلاء وَمَن يُضلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً}.

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّهُ لا نجاةَ وَلا فَوزَ في يَومِ الدِّينِ وَلا فَلاحَ ولا تَوفِيقَ إِلاَّ لِلصَّادِقِينَ، وَالصِّدقُ خَيرٌ لِلمُتَّقِينَ، قال جل وعلا: {قَالَ اللهُ هَذَا يَومُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدقُهُم لهم جَنَّاتٌ تَجرِي مِن تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ}،وقال سُبحَانَهُ:{ وَالَّذِي جَاء بِالصِّدقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ}،وَأَخرَجَ البُخَارِيُّ وَمُسلِمٌ عَن طَلحَةَ بنِ عُبَيدِ اللهِ رضي اللهُ عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلى رَسُولِ اللهِ مِن أَهلِ نَجدٍ ثَائِرَ الرَّأسِ يُسمَعُ دَوَيُّ صَوتِهِ وَلا يُفقَهُ مَا يَقُولُ، حتى دَنَا فَإِذَا هُوَ يَسأَلُ عَنِ الإِسلامِ، فقال رَسُولُ اللهِ: (خمسُ صَلَواتٍ في اليَومِ وَاللَّيلَةِ)، فقال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال:(لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)، قال رَسُولُ اللهِ: (وَصِيَامُ رَمَضَانَ)، قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهُ؟ قال:(لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)، قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ، قال: هَل عَلَيَّ غَيرُهَا؟ قال: (لا إِلاَّ أَن تَطوعَ)، قال: فَأَدبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَاللهِ لا أَزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أَنقُصُ، قال رَسُولُ اللهِ: (أَفلَحَ إِن صَدَقَ)، بَل إِنَّ الصَّادِقَ مَعَ اللهِ لا يُخَيِّبُهُ اللهُ فِيمَا رَجَاهُ، فَقَد رَوَى النَّسَائِيُّ أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَعرَابِ جَاءَ إِلى النَّبيِّ فَآمَنَ بِهِ واتَّبَعَهُ، ثم قال: أُهَاجِرُ مَعَكَ، فَأَوصَى بِهِ النَّبيُّ بَعضَ أَصحَابِهِ، فَلَمَّا كَانَت غَزَاتُهُ غَنِمَ النَّبيُّ فَقَسَمَ وَقَسَمَ لَهُ، فَأَعطَى أَصحَابَهُ مَا قَسَمَ لَهُ، وَكَانَ يَرعَى ظَهرَهُم، فَلَمَّا جَاءَ دَفَعُوهُ إِلَيهِ، فقال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: قَسمٌ قَسَمَهَ لَكَ النَّبيُّ فَأَخَذَهُ فَجَاءَ بِهِ إلى النَّبيِّ فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قال: (قَسَمتُهُ لَكَ)، قَال: مَا عَلَى هَذَا اتَّبَعتُكَ، وَلَكِنِ اتَّبَعتُكَ عَلَى أَن أُرمَى إِلى هَا هُنَا وَأَشَارَ إِلى حَلقِهِ بِسَهمٍ فَأَمُوتَ فَأَدخُلَ الجَنَّةَ، فقال: (إِن تَصدُقِ اللهَ يَصْدُقْكَ)، فَلَبِثُوا قَلِيلاً ثم نَهَضُوا إِلى قِتَالِ العَدُوِّ، فَأُتِيَ بِهِ إِلى النَّبيِّ يُحمَلُ قَد أَصَابَهُ سَهمٌ حَيثُ أَشَارَ، فقال النَّبيُّ: (أَهُوَ هُوَ؟) قَالُوا: نَعَمْ، قال: (صَدَقَ اللهَ فَصَدَقَهُ)، بَل إِنَّ جَزَاءَ الصَّادِقِ لَيَتَجَاوَزُ ذَلِكَ بِفَضلِ اللهِ وَرَحمَتِهِ، حتى إِنَّهُ تعالى لَيَمُنُّ عَلَى العَبدِ بِصِدقِ نِيَّتِهِ فَيُؤتِيهِ أَجرَ العَامِلِ وَلَو لم يَعمَلْ، قال:(مَن سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ مِن قَلبِهِ صَادِقًا بَلَّغَهُ اللهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِن مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ).أَمَّا كَلِمَةُ التَّوحِيدِ فَإِنَّ لها مَعَ الصِّدقِ شَأنًا عَظِيمًا، قال:(مَن مَاتَ وَهُوَ يَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ محمدًا رَسُولُ اللهِ صَادِقًا مِن قَلبِهِ دَخَلَ الجَنَّةَ)، وقال عليه الصلاةُ والسلامُ:(مَا مِن نَفسٍ تَمُوتُ وَهِي تَشهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَني رَسُولُ اللهِ يَرجِعُ ذَلِكَ إِلى قَلبٍ مُوقِنٍ إِلاَّ غَفَرَ اللهُ لها).وَالمُؤمِنُ لا بُدَّ أَن يَقَعَ في الذُّنُوبِ، وَلَكِنَّهُ متى صَدَقَ في التَّوبَةِ وَاستَغفَرَ رَبَّهُ بِيَقِينٍ لم يَكُنْ لَهُ دُونَ الجَنَّةِ جَزَاءٌ، قال عليه الصلاةُ والسلامُ: (سَيِّدُ الاستِغفَارِ أَن تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنتَ رَبي لا إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ، خَلَقتَني وَأَنا عَبدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهدِكَ وَوَعدِكَ مَا استَطَعتُ، أَعُوذُ بِكَ مِن شَرِّ مَا صَنَعتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنبي، فَاغفِرْ لي فَإِنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنتَ)، قَالَ:(وَمَن قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بها فَمَاتَ مِن يَومِهِ قَبلَ أَن يُمسِيَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ، وَمَن قَالَهَا مِنَ اللَّيلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بها فَمَاتَ قَبلَ أَن يُصبِحَ فَهُوَ مِن أَهلِ الجَنَّةِ).بَل حتى الدُّنيَا وَمَا فِيهَا مِنَ التَّعامُلِ فَإِنَّهُ لا يَستَقِيمُ حَالُهَا إِلاَّ لِمَن صَدَقَ، قال:(البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لم يَتَفَرَّقَا، فَإِن صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لهما في بَيعِهِمَا، وَإِن كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَت بَرَكَةُ بَيعِهِمَا)، بَل إِنَّهُ مَا في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ مِن خَيرٍ وَلا بِرٍّ إِلاَّ وَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَمَا مِن شَرٍّ وَلا فُجُورٍ إِلاَّ وَبِدَايَتُهُ الكَذِبُ، شَاهِدُ ذَلِكَ مَا صَحَّ عنه عليه الصَّلاةُ وَالسَّلامُ أَنَّهُ قال:(عَلَيكُم بِالصِّدقِ؛ فَإِنَّ الصِّدقَ يَهدِي إِلى البِرِّ، وَإِنَّ البِرَّ يَهدِي إِلى الجَنَّةِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدقَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ صِدِّيقًا، وَإِيَّاكُم وَالكَذِبَ؛ فَإِنَّ الكَذِبَ يَهدِي إِلى الفُجُورِ، وَإِنَّ الفُجُورَ يَهدِي إِلى النَّارِ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حتى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا)، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَكُلُّ عَمَلٍ صالحٍ ظاهرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الصِّدقُ، وَكُلُّ عَمَلٍ فَاسِدٍ ظَاهِرٍ أو بَاطِنٍ فَمَنشَؤُهُ الكَذِبُ، وَاللهُ تعالى يُعَاقِبُ الكَذَّابَ بِأَن يُقعِدَهُ وَيثَبِّطَهُ عَن مَصَالحِهِ وَمَنَافِعِهِ، وَيُثِيبُ الصَّادِقَ بِأَن يُوَفِّقَهُ لِلقِيَامِ بمصالحِ دُنيَاهُ وَآخِرَتِهِ، فَمَا استُجلِبَت مَصَالحُ الدُّنيا وَالآخِرَةِ بِمِثلِ الصِّدقِ، وَلا مَفَاسِدُهما وَمَضَارُّهما بِمِثلِ الكَذِبِ.يقول الله تعالى :"وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا".( النساء 69 ) ..ادعو الله صادقين عسى أن تكن ساعة استجابة ...

الحمد لله {الذي يقبل التوبة عن عباده.ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد.}ـ الشورى 25/26 ـ واشهد أن لاإله إلا الله الملك الحق المبين واشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.أما بعد :فَاتَّقُوا اللهَ تعالى وَأَطِيعُوهُ، وَرَاقِبُوا أَمرَهُ وَنهيَهُ وَلا تَعصُوهُ، اتَّقُوا اللهَ وَاعلَمُوا أَنَّكُم مُلاقُوهُ.ثم اعلَمُوا أَنَّ الصِّدقَ كَمَا أَسلَفنَا خُلُقٌ شَامِلٌ، يَدخُلُ فِيهِ الصِّدقُ في الأَقوَالِ وَالأَعمَالِ وَالأَحوَالِ، قال ابنُ القَيِّمِ رحمه اللهُ: "فَالصِّدقُ في الأَقوَالِ استِوَاءُ اللِّسَانِ على الأَقوَالِ كاستِوَاءِ السُّنبُلَةِ على سَاقِهَا، وَالصِّدقُ في الأَعمَالِ استِوَاءُ الأَفعَالِ على الأَمرِ وَالمُتَابَعَةِ كاستِوَاءِ الرَّأسِ على الجَسَدِ، وَالصِّدقُ في الأَحوَالِ استِوَاءُ أَعمَالِ القَلبِ وَالجَوَارِحِ على الإِخلاصِ وَاستِفرَاغِ الوُسعِ وَبَذلِ الطَّاقَةِ، فَبِذَلِكَ يَكُونُ العَبدُ مِنَ الذِينَ جَاؤُوا بِالصِّدقِ، وَبِحَسَبِ كَمَالِ هَذِهِ الأُمُورِ فِيهِ وَقِيَامِهَا بِهِ تَكُونُ صِدِّيقِيَّتُهُ".أَيُّهَا المُسلِمُونَ، إِنَّ أَمرَ الصِّدقِ عَظِيمٌ وَشَأنَهُ جَلِيلٌ، وَإِنَّ الأُمَّةَ لم تُؤتَ في مَاضٍ وَلا حَاضِرٍ إِلاَّ مِن قِبَلِ عَدَمِ صِدقِهَا مَعَ رَبِّهَا، لَكِنَّهَا لم تُبتَلَ بِعَدَمِ الصِّدقِ بِمِثلِ مَا بُلِيَت بِهِ في هَذِهِ الأَزمِنَةِ التي كَثُرَ فِيهَا الدَّجَّالُونَ وَالأَفَّاكُونَ، وَوُجِدَ فِيهَا المُتَكَلِّمُونَ المُتَفيهِقُونَ، الذِينَ يَقُولُونَ مَا لا يَفعَلُونَ، وَيَتَحَدَّثُونَ فِيمَا لا يَعلَمُونَ، وَيُدخِلُونَ أَنفُسَهُم فِيمَا يُحسِنُونَ وَمَا لا يُحسِنُونَ، وَصَدَقَ المَصدُوقُ حَيثُ قال:(إِنَّ بَينَ يَدَيِ السَّاعَةِ سِنِينَ خَدَّاعَةً، يُصَدَّقُ فِيهَا الكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا الصَّادِقُ،وَيُؤتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ،وَيَنطِقُ فِيهَا الرُّوَيبِضَةُ)، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيبِضَةُ؟ قال: (المَرءُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ في أَمرِ العَامَّةِ). وَالمُتَابِعَ لِمَا يجري في أوطاننا الإسلامية اليَومَ لَيَعلَمُ مَدَى انطِبَاقِ هَذَا الحَدِيثِ عَلَى المسلمين، فَكَم مِن صَادِقٍ يكَذَّبُ وَيظَلَمُ ويعذب وربما يقتل! وَكَم مِن كَاذِبٍ يصَدَّقُُ ويظهر ويتوج! كَم مِن حَقَائِقَ تقَلَبُ وَتغَيَّر. فَاتَّقُوا اللهَ أَيُّهَا المُسلِمُونَ، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَقوَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَعمَالِهِم، كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في أَحوَالِهِم، اُصدُقُوا اللهَ يَصدُقْكُم، اُصدُقُوا مَعَ أَنفُسِكُم وَإِخوَانِكُم، اُصدُقُوا في بَيعِكُم وَشِرَائِكُم وَمُعَامَلاتِكُم، اُصدُقُوا في أَخذِكُم شَرَائِعَ دِينِكُم، لا تُكُونُوا ممَّن يُؤمِنُ بِبَعضٍ وَيَكفُرُ بِبَعضٍ، بَل خُذُوا مَا أُوتِيتُم بِقَوَّةٍ وَلا تَتَرَدَّدُوا ، إِنَّ اللهَ أَكرَمُ مِن أَن يُخَيِّبَ صَادِقًا، إِنَّ اللهَ أَجوَدُ مِن أن يَرُدَّ صَادِقًا،وَوَاللهِ لَو صَدَقَ المُسلِمُونَ لانتَصَرُوا وَقَادُوا العَالمَ، وَاللهِ لَو صَدَقَ النَّاسُ بَعضُهُم بَعضًا مَا احتَاجُوا مَحكَمَةً وَلا قَاضِيًا، وَاللهِ لَو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لََتَلاشَتِ المُنكَرَاتُ وَاختَفَتِ المُخَالَفَاتُ،وَاللهِ لَو صَدَقَ بَعضُنَا بَعضًا لَطَابَت لنا الحَيَاةُ، وَلَذَهَبتِ الهُمُومُ وَقُضِيَت الحَاجَاتُ. 

 

 محمد وحيد الجابري
 مسجد الرحمن – دبيلت / هولندا
جمعة 23رمضان 1425/ 05 أكتوبر 2004