شريعة

بلسان عربيّ مبين

بلسان عربي

اللغة « العربيّة هي روح القرآن، وشعار الإسلام، ولسان الفرائض وسائر الشّعائر.وهي لغة قديمة ، عرفت قبل نزول القرآن بأكثر من ألف عام ، مما أهّلها لأن تكون لغة  خاتم كتب السّماء. قال الله تعالى : ( إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا لعلّكم تعقلون ) يوسف/آية 2.( كتاب فصّلت آياته قرآنا عربيّا لقوم يعلمون ) فصّلت/آية 3.( وهذا كتاب مصدّق لسانا عربيّا )الأحقاف/آية 12.فبديهيّ أن  تكون  كتابته في المصحف إنما هي باللغة العربيّة والخطّ العربي ،لا غيره من سائر حروف اللغات الأخرى ،فالله عزّ وجلّ ارتضى في الأزل جعل هذا القرآن بلسان عربيّ مبين ، ثمّ أنزله تعالى بعلمه وفقا لما قضى وقدّر .

قال الإمام الثّعالبي (ت 430هـ=1038م) في كتابه (فقه اللغة) :" مَن أحب الله تعالى أحب رسوله محمدا  ، ومن أحبّ الرّسول العربيّ أحبّ العرب ، ومن أحب العرب أحب العربيّة ، التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ،ومن أحبّ العربية عُني بها ، وثابر عليها ، وصرف همّته إليها ، ومَن هداه الله للإسلام ، وشرح صدره للإيمان ، وآتاه حسن سريرة فيه ، اعتقد أن محمدا خير الرّسل ،والإسلام خير الملل ،والعرب خير الأمم ،والعربيّة خيراللغات والألسنة ، والإقبال على تفهّمها من الديانة ، إذ هي أداة العلم ، ومفتاح التّفقّه في الدين … " .وإلى مثل ذلك ذهب أيضا الإمام الشّاطبي (ت 790هـ=1388م) في كتابَيه (الإعتصام ، والموافقات) .يقول الإمام محمد عبده (ت 1323هـ=1905م) : إنّ إصلاح لساننا هو الوسيلة المفردة لإصلاح عقائدنا ، وجهل المسلمين بلسانهم ، هو الذي صدّهم عن فهم ما جاء في كتاب دينهم وأقوال أسلافهم .ويقول شيخ الأزهر محمد الخضر حسين (ت 1378هـ=1958م) في كتابه (بلاغة القرآن) : كانت اللغة العربيّة تجرّ رداءها أينما رفعوا رايتهم ، وتنتشر في كل واد وطئته أقدامهم ، فلم يشعروا في دعوتهم إلى الإسلام بحاجة إلى نقل معاني القرآن إلى اللغات الأجنبيّة ، وربّما كان عدم نقلها إلى غير العربيّة ، وهم في تلك العزّة والسّلطان من أسباب إقبال غير العرب على معرفة لسان العرب ، حتّى صارت أوطان أعجميّة إلى النّطق بالعربيّة .ويقول العلامة محمد أبو زهرة (ت 1394هـ=1974م): إنّ الإسلام لا يمكن فهمه إلاّ باللّغة الفصحى، والقرآن كذلك، ومن هنا كانت محاولة ضرب اللّغة العربيّة الفصحى حتّى لا يفهم القرآن.ويقول الشّيخ منّاع القطّان (ت 1420هـ=1999م) في كتابه (مباحث في علوم القرآن) : لا شكّ أنّ اللّغة العربيّة تحيا بحياة أمّتها وتموت بموتها، فكانت نشأة الدّولة الإسلاميّة على هذا النّحو حياة للغة العرب، فالقرآن وحي الإسلام، والإسلام دين الله المفروض، ولم يتأتّى معرفة أصوله وأسسه إلاّ إذا فُهِمَ القرآن بلغته، فأخذت موجة الفتح الإسلامي تمتدّ إلى الألسنة الأخرى الأعجميّة فتعرّبُهَا بالإسلام وصار لزاما على كلّ من يدخل في حوزة هذا الدّين الجديد أن يستجيب له في لغة كتابه باطنا وظاهرا حتّى يستطيع القيام بواجباته، ولم يكن هناك حاجة إلى ترجمة القرآن له ما دام القرآن قد ترجم لسانه، وعرّبه إيمانا وتسليما.ويقول د. مراد هوفمان  (سفير ألمانيا في الرّباط ، بعد ما أسلم) في كتابه (الإسلام كبديل) : قد يرفض المسلم مضمون القرآن، لكنّه لا يستطيع إنكار إعجابه وتأثّره بروعة النّصّ القرآنيّ، وأسر نظمه المُحكم، وبلاغته وفصاحته الآخذة بالألباب، والّتي سحرت وبهرت حتّى مَن لسانه أعجميّ، مثل :غوته، وفريد ريش ريكارت".

هل نُعَرّب أم نُغَرّب ؟ نُعَرّب اللّسان، ولا نُغَرّبُ القُرْآن ..في التّعريب فوائد جمّة، وفي أسلمة المعرفة مكاسب للإسلام، ومنافع للمسلمين، حتّى نصل بذلك إلى تصويب نظرة الآخَر إلينا، وتصحيح ما عَلِقَ بذهنه من أباطيل وتُرّهات عن الإسلام.ومِن ثَمَّ يصبح هذا الآخَرُ  يقرأ فِعْلا بلغتين وليس بلغة واحدة، ويستمع إلى وقائع ما يجري في العالم بأذنين لا بأذن واحدة، ويرى ما يَحْدُث حوله عن قرب أو بعد بعينين] لا بعين واحدة. يقول الشّيخ محمد الغزالي (ت 1416هـ=1996م) في كتابه "الدّعوة الإسلاميّة تستقبل قرنها الخامس عشر": { المسلمون في هذا العصر يكادون يجهلون أنّ لهم رسالة عالميّة، بل إنّ حياتهم وِفقَ شرائع دينهم وشعائره مَوْضِع ريبة،وقد تكون موضع مساومة.إنّ ذلك يوجب علينا الإحساس المضاعف بخطئنا وتخلّفنا،ويحمّلنا عبء المسارعة إلى تعليم الجاهل،ومراجعة المخدوع، وتعريف النّاس بربّهم الواحد الأحد الفرد الصّمد،وربطهم بالدّين الّذي حمل رايته جميع الأنبياء،ثمّ نقّاه وشدَّ دَعائمه،وثبّت أهدافه النّبيّ الخَاتَم محمد بن عبد الله.والأمر الثّاني المتّصل بعالميّة الرّسالة، يرجع إلى اللّغة العربيّة، فلغة الرّسالة الخالدة يجب أن تتبوّأ مكانة رفيعة لدى أصحابها ولدى النّاس أجمعين،فإنّ الله باختياره هذه اللّغة وعاء لوحيه الباقي على الزّمان، قد أعلى قدرها وميّزها على سواها.والواقع أنّ اللّغة العربيّة مهاد القرآن وسياجه،فإذا تضعضعت وأُقصيت عن أن تكون لغة التّخاطب ،ولغة العلم والحضارة،أوشك القرآن نفسه أن يوضع في المتاحف .ولهذه الغاية الخاسرة تعمل فئات غفيرة من المستعمرين وأذنابهم،وما أكثر أولئك الأذناب في الجامعات والمجامع،ودُورِالإذاعات والصّحف وغيرها.إنّ آباءنا عليهم الرّضوان نشروا اللّغة العربيّة بكلّ الوسائل المتاحة لهم،وما تأسّست مدرسة لخدمة الدّين إلاّ انقسمت علومها بين مناهج الشّريعة  ومناهج اللّغة والآداب..إنّ هناك لغات لَمْ يُشَرّفها الله بوحي، ولم تَصْحَب حضارة إنسانيّة مشرقة، يخدمها أبناؤها بذكاء نادر،فما دَهَى العرَبَ حتّى تركوا لُغَتهم توشك أن تكون من اللّغات الميتة أوالثّانويّة في هذه الدّنيا!إنّنا عجزنا عن جعل اللّغة العربيّة لغة أُولَى بين الألف مليون مسلم الّذين يعتنقون الإسلام،وهذا وحده فشل ذريع نُؤَاخَذ به يوم الحساب ؛ ويرجع هذا الفشل إلى أنّ العرب أنفسهم لا يُجِلّون لغتهم، بل لقد استطاع الإستعمار الثّقافي أن يُكَرِّهَهَا لهم، أو يُحَقّرها لديهم، فأيّ بلاء هذا؟ وبقي عنصر أخير فرّطنا فيه كثير، وهو تعليم اللّغة العربيّة، سواء للمسلمين الأعاجم أو لغير المسلمين! إنّ الجهل باللّغة العربيّة يشيع بين ثمانين أو خمس وثمانين في المائة من المسلمين، وأمّا الجهل بها في أرجاء العالم فشيء مفزع، ولا يمكن عدّها لغة عالميّة مع أنّها الوعاء الفذّ للرّسالة العالميّة الوحيدة، الّتي طرقت أبواب العالم، وشاء القدر الأعلى أن تبقى فيه إلى يومه الأخير }. انتهى كلامه.

وبالفعل ، هذا ما قام به رسول الله حين راسل باسمه الشّريف الملوك والعظماء : يدعوهم إلى الإسلام، ويبيّن لهم الشّرائع والأحكام، وقد كان منهم عرب  و عجم ، ومع ذلك لم يكتُب لهم آية واحدة بلغاتهم، مع وجود من يترجم له مثل : أُبَيّ، وسَلْمَان، وصُهَيْب، وغيرهم.فما هو السّبب يا ترى ؟ في حين أنّهم أعداء له ولدينه، وأنّه قد يُخشى منهم أن لا يهتمّوا بقراءة مكاتيبه؟ الّذي يجيب عن هذا هو الإمام الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني (ت 852هـ=1448م) في كتابه (فتح الباري في شرح صحيح البخاري ) فيقول :    { ليس من سبب سوى أن يسلّطهم على تعليمه ،ولا سبيل إلى ذلك إلاّ العربيّة، فكأنّه عليه السّلام حملهم على تعلّمها، حتّى يفهموا ما جاءهم من عنده من بيان وقرآن }.وما قاله الحافظ ابن حجر (قديما هو الّذي يصار إليه حديثا، فيقال لمن يسأل – وإن بعفويّة وبراءة – : ما هو البديل في حقّ من لا يعرف اللّغة العربيّة  حتّى يقرأ القرآن؟ وجوابه : أنّ تلاوة القرآن الكريم سنّة ، وأنّ تعلّم اللّغة العربيّة لقراءة القرآن، وإقامة الفرائض وأداء الشّعائر فرض ، كما يُفهَم من كلام كثير من الأئمّة السّابقين.وليس في تعلّم اللّغة العربيّة أو أيّة لغة أخرى أيّ غضاضة، لأنّ عصرنا الّذي نحياه اليوم : هو العصر الذّهبيّ لتعلّم اللّغات ونشرها.وإذا كنّا نحن العرَبَ شعوبا وحكومات  قد عجزنا عن أن نقرّب ثقافتنا الغنيّة بالمعارف إلى غير العرب ولو عن طريق ترجمة نفائسها، و بالمناسبة أنّ محصول التّرجمة من العربيّة إلى اللّغات الأجنبيّة على مدار السّنة هزيل جدّا إذا ما قورن بما تقوم به دول الغرب ودوائر التّرجمة سواء على المستوى الرّسمي أو حتّى الشّعبي ، فلنَسلُك على الأقلّ سبيلا أخرى قد تعضُد الأولى، وهي تعريب اللّسان  بتعليم اللّغة العربيّة، خصوصا لألئك الّذين يعتنقون الإسلام، فإنّ لهم علينا حقّا في تعريبهم وتعليمهم.

متى ظهرتْ  فكرة استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة ؟  :

يرى الأستاذ أنور الجندي (ت 1423هـ=2002م) أنّ محاربة اللغة العربيّة تمهيدا لإقصائها ، وإحلال حروفها بحروف أخرى ،بدأ منذ الاحتلال الأوربي لبلدان العالم الإسلامي في القرن الثامن عشرالميلادي فيقول في كتابه (اللغة ص22) : حُورِبت اللغة العربيّة منذ وصل الاحتلال الغربي إلى بلاد الإسلام ..أمّا في البلاد العربيّة فقد حُورِبت اللغة العربيّة بحصرها في الجوامع ، والاستعاضة باللغة العاميّة الدّارجة ، وكذلك الدّعوة إلى إلغاء الحرف العربي ،والاستعاضة عنه بالحروف اللاتينيّة ،وجرت حملة واسعة بالادّعاء لعجز اللغة العربيّة عن أداء مهمّتها إزاء المصطلحات الحديثة ،وصعوبة تعلّمها .اهـ.

وهذا الذي يقوله الأستاذ أنور الجندي صحيح : ففي سنة 1883 دعا اللورد دفرين البريطاني إلى محاربة العربيّة والاهتمام باللهجات العاميّة ،وسارعلى نفس النّهج وليم وديلكوكس سنة 1892 وكان ديلكوكس يعمل مهندسا للريّ في مصر،وقد دعا إلى العاميّة وهجْر العربيّة ،وخطا باقتراحه خطوة عمليّة بأن ترجم الإنجيل إلى ما أسماه باللغة المصريّة ،ثمّ القاضي الانجليزي ويلمورالذي عاش في مصروألّف سنة 1902 كتابا باسم (لغة القاهرة)، واقترح فيه قواعد ، نصَح باتخاذها للعلم والأدب ، كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينيّة .وممن استحسن هذه النّظريّة ، وتجاوب مع تلك الدّعوة الهدامة : الدكتور عبد العزيز فهمي  زعيم الأحرار الدّستوريين في مصر آنذاك  فقد تقدّم سنة (1361هـ = 1942م) إلى مجمع اللغة العربيّة في القاهرة بمشروع خطير، يدعو فيه إلى استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاتينيّة  ، لكن سرعان ما قوبِل ذلك بالسّخط الشّديد، والاستنكار العريض، داخل مصر وخارجها .ومثله فعل سعيد عقل فقد قام هو أيضا يدعو إلى استخدام العاميّة بدل الفصحى ، وكتابتها بالحروف اللاتينيّة ،وكان يقول في صراحة ووقاحة : من أراد لغة القرآن فليذهب إلى أرض القرآن .وإذا كانت فكرة استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينيّة  قد بادت في مصر، ولم تلق رواجا في دول عربيّة أخرى ،فإنّه قد نبتت لها نابتة في تركيا وأندونيسيا والصّومال والجمهوريات الإسلامية في آسية ،ووجدت صَدًى كبيرا لها هناك .

لقد اسْتبدلت تركيا « الحروف العربيّة » بالحروف اللاتينيّة في أواخر العشرينات من القرن الميلادي ، وتحديدا في عام (1347عـ=1928) ، وجعلت الأذان الشّرعي باللغة التّركيّة ، ثمّ وصلت جرأتها إلى استصدار أوامر تُلزِم أئمّة المساجد بقراءة الفاتحة في الصّلاة بالتركيّة أيضا .يقول العلامة عبد الله كنون (ت 1409هـ=1989م) شاهدا عمّا حدث في تركيا : استنكر ذلك العالم الإسلاميّ بأسره ،وقام في وجه هذا القرار شيخ الإسلام بتركيا الشيخ مصطفى صبري رحمه الله ، فاضطهده الكماليون حتّى اضطُرّ إلى الهجرة من تركيا واستوطن مصر ،وأيّده علماؤها والعلماء في كلّ قطر إسلامي وكتب الشيخ مصطفى صبري نفسه كتابا في الموضوع ، وكان هذا الموقف «إجماعا من علماء الإسلام عربا وعجما،على أنّ القرآن نزل باللغة العربيّة كما قال تعالى : ) بلسان عربيّ مبين ( ويجب أن يبقى كتابا عربيّا إلى الأبد ، وأيّ مساس بعربيّته يُعدّ من الإلحاد في الدّين ، والضّلال المبين.

كتب الأستاذ فهمي هويدي عن خطورة استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاّتينيّة في المصحف الشّريف يقول :" في أوزباكستان الّتي هي تقليديّا معقل المذهب الحنفي، وفي داغستان جمهوريّة المذهب الشّافعي، وفي أذربيجان ذات الأغلبيّة الشّيعيّة الجعفريّة، في هذه الجمهوريّات وغيرها يتواجد المبشّرون بكثافة لافتة للنّظر،طبعوا الإنجيل باللّغات المحليّة،وبعض طبعاته كان لها غلاف مماثل لأغلفة المصحف الشّريف، حتّى يبدو الكتاب مثل المصحف في ظاهره، ومن ثَمّ يتقبّله النّاس، ولأنّ نسبة غير قليلة منهم لم تطّلع على المصحف، فإنّ ما بين دفّتي الكتاب يمكن قبوله بيسر، حتّى صار المسلمون يقرؤون الإنجيل على أنه مصحف، وينسلخون من الإسلام بصورة تدريجيّة بدون أن يشعروا.المدهش في الأمر،أنّ ذلك  حَدَثَ وَسَط الصّمت التّام من جانب مختلف المؤسّسات الإسلاميّة  ".

الخلاصة] : أنّ أخطر هجمات الغزو الفكري الحديث ضدّنا، حين يصل الحال إلى كتابة القرآن الكريم بالحرف اللاّتيني عوضا عن الحرف العربي، وتبَنّي هذه الفكرة الغاشمة من أمكر الوسائل الخبيثة والحاقدة نحو أعظم مقدّسات الإسلام.

ورحم الله الأستاذ الدّكتور محمد محمد حسين إذ يقول : « ليس الخطر في الدّعوة إلى العاميّة، ولا الدّعوة في الحروف اللاّتينيّة، إنّ الخطر الحقيقيّ هو في قبول « مبدأ التّطوير » نفسه، لأنّ التّسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حدّ معيّن، أو مَدًى معروف يقف عنده المتطوّرون، ولا ريب أنّ التّزحزح عن الحقّ، كالتّفريط في العِرض .

تحريم  كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة  بلا منازع :

بعد هذه الجولة الواسعة في أرجاء هذا الموضوع الخطير بدءا بـالتّمهيد وانتهاء بـظهور  فكرة استبدال الحروف العربيّة بالحروف اللاّتينيّة ، نَخْلُصُ إلى أنّ هذه المؤامرة الدّنيئة  على نصّ القرآن المقدّس، إنّما تستهدف مصحف المسلمين  في أرجاء العالم، لتجرّده من أعظم خصائصه الّتي أنزله الله بها، وتستبدل الرّسم العثمانيّ الخالد، الّذي كتِب به منذ ما يزيد على أربعة عشر قرنا، والمجمع عليه عند جمهرة أئمّة الدّين، بحروف قاصرة غير عربيّة.وحسب استقراء بسيط فقد ظهر أكثر من مصحف مكتوب بالكامل بلغات غيرعربيّة في : تركيّا، وإندونيسيا،وإنجلترا،وفرنسا.

مصحف بالحروف التّركيّة، طبع في استانبول سنة (1351هـ=1932م)، نشرته مكتبة إبراهيم حلمي.

مصحف بالحروف الإندونيسية، أخبرعنه أحد مبعوثي إدارات البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد في الرّياض، ظهر في جاكرتا.

مصحف بالحروف الإنجليزيّة، أعلمني بذلك مدير مكتب رابطة العالم الإسلامي في باريس : د. عبد الحليم خلدون الكِناني (ت 1410هـ=1989م).

مصحف بالحروف الفرنسيّة، وهو يباع في سائر المكتبات بالعاصمة باريس.

يقول الدّكتور معروف الدّواليبي في مقال له ، وهو يتحدّث عن تاريخ نشأة المسيحيّة وما تفرّع عنها من كاثوليكيّة ، فأرثوذكسيّة ، فبروتستانتيّة : « كلّ هذه الأديان الثّلاثة تابعة للأناجيل الأربعة التي قُبلت وحدها من أصل مائة إنجيل في أوّل مؤتمر مسكوني دعا إليه قسطنطين ، ليُتّخذ دينا عامّا للدولة يسمّى الكاثوليكيّة التي تَعني  حرفيّا : الدين العام ، تخلّصا من الفرق المسيحيّة التي كثرت وتعدّدت في زمانه ، حتّى بلغت أناجيلها مائة إنجيل ، وكلّ فئة تدّعي أنّ إنجيلها هو الصّحيح  .

فهذا الذي تحدّث عنه الدّكتور الدّواليبي نخشى أن نصل إليه وإن كان ذلك بعيدا ، لكن لا ندري ماذا يُخفيه لنا أعداؤنا ، ومعهم النّاعقون من بني جلدتنا ،الذين لا يرقبون عواقب الأمور في كلّ محظور .وقد صدق المفكّر المسلم الأستاذ وحيد الدين خان حين قال : « حين دُوّن القرآن في عهد أبي بكر بإشراف الدّولة ، أُحرِقت النّسخ الانفرادية الأخرى بسبب هذه الحكمة ، وهي : أنّه لو دُوّن القرآن بجهود انفراديّة لتفجّر خلاف شديد ما كان ليهدأ قبل يوم القيامة ؛ ولعلّ عمر بن عبد العزيزأيضا ، وضع مثل هذه الخطّة لجمع الأحاديث النّبويّة وتدوينها،ولكنّ هذا العمل لم يتحقّق بإشراف الدّولة الإسلاميّة بسبب موته المبكّر .

فتوحيد دستور المسلمين الخالد إذًا ،نعمة جزيلة ومنّة عظيمة على جميع المسلمين في أنحاء العالم .لقد نزل القرآن الكريم بلسان عربي مبين ،ثمّ كُتب باللغة العربيّة على أيدي مهَرَة من كتبة الوحي الذين اصطفاهم رسول الله لهذا العمل الجلل ،ولذا حُفظت كتابته من وقت نزوله إلى اليوم ،ووقع الإجماع على هذا في عهود الصّحابة ،والخلفاء الراشدين ،والتابعين،وأتباع التابعين رضوان الله تعالى عليهم أجمعين . ومضى الحال على ذلك ، ودخل مَن دخل من الأمم غير العرب في الإسلام ، ولم يُفكّروا يوما في إحالته عن عربيّته فالمسلمون من غرْب آسيا وشمال إفريقيا استعرَبوا بالإسلام والقرآن ،والهنود والأتراك وأهل فارس والأوربيون (حديثا) ممن دخلوا في دين الله كذلك .فلماذا نأتي اليوم ببدعة  جديدة لا أساس لها في الدين لا من قريب ولا من بعيد ؟ وقد سئل الإمام مالك – كما نقله الإمام أبو عمْرو الدّاني عن أشهب  : هل يُكتب المصحف على ما أحدثه النّاس من الهجاء ؟ فقال : لا ، إلاّ على الكِتْبَة الأولى .وقال الإمام أحمد بن حنبل :"يحرُم مخالفة خطّ مصحف عثمان في واو أو ياء أو ألف ، أو نحو ذلك" .وقال الإمام ابن الجوزي (ت 597هـ=1200م) : « إنّ كتابة الصّحابة للمصحف الكريم مما يدلّ على عظيم فضلهم في علم الهجاء خاصّة ،وثقوب فهمهم في تحقيق كلّ علم وقال الإمام البيهقيّ (ت 458هـ=1065م) في كتابه (شُعَب الإيمان) :"مَن كتب مصحفا، ينبغي أن يحافظ على الهجاء الّذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغيّر ممّا كتبوه شيئا، فإنّهم كانوا أكثر علما، وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة، فلا ينبغي أن نظنّ بأنفسنا استدراكا عليهم." وقال القاضي عَيَّاض[26] (ت 544هـ=1149م) :" أجمع المسلمون أنّ القرآن المتلوّ في جميع أقطار الأرض المكتوب في المصحف بأيدي المسلمين، ممّا جمعُهُ الدّفّتان من أوّ  ) الحمد لله ربّ العالمين ( إلى آخر ) قل أعوذ بربّ النّاس ( أنّه كلام الله ووحيه المنزّل على نبيّه محمّد ، وأنّ جميع ما فيه حقّ، وأنّ من نقّص منه حرفا قاصدا لذلك، أو بدّله بحرف آخر مكانه ، أو زاد فيه حرفا ممّا لم يشتمل عليه المصحف الّذي وقع الإجماع عليه، وأجمع على أنّه ليس من القرآن عامدا لكلّ هذا ، أنّه كافر .ويقول الدّكتور يوسف القرضاوي : « بقي المصحف برسمه العثماني إلى يومنا هذا، ولم يقبل أحد من المسلمين أن يغيّر رسمه إلى الرّسم الإملائي المعتاد، وإن كان أيسر على النّاس، مبالغة في الحفاظ على النّصّ القرآني من أيّ تغير قد يحدث في المستقبل خطأ أو عمدا …ومن هنا، ينبغي أن يُفْهَم أنّ الأصل في الفتوى هو عدم جواز كتابة النّصّ القرآني بغير الحرف العربي .

تحريم « الكتابة » يستتبع تحريم « التّلاوة  :

لأنّ تحريف الكتابة ينجم عنه سوء القراءة، قال الإمام الزّركشي : « لا تجوز قراءة القرآن بالعجميّة سواء أحْسن العربيّة أم لا، في الصّلاة وخارجها لقوله تعالى : ) إنّا أنزلناه قرآنا عربيّا ( وقوله : ) ولو جعلناه قرآنا أعجميّا ( .وقال شيخ الإسلام أحمد بن تيميّه: « أمّا القرآن فلا يقرأه بغير العربيّة، سواء قدر عليها أو لم يقدر عند الجمهور، وهو الصّواب الّذي لا ريب فيه.وأمّا ما نقل عن الإمام أبي حنيفة النّعمان  من جواز القراءة في الصّلاة بالفارسيّة، فقد صحّ تراجعه عنه، وتبعه في ذلك أصحاب مذهبه ؛ ذكر ذلك الكمال بن الهمام ،وشارح المنار ،وصدر الشّريعة في التّوضيح ،وغيرهم، وكلّهم قالوا : الأصحّ أنّه رجع عن هذا القول.وبهذا يكون رأي الأحناف متّفقًا مع رأي جمهور العلماء في التّحريم.

قاعدة « سدّ الذّرائع » : تُدَعِّم حكم تحريم كتابة القرآن بالحروف اللاّتينيّة :

انفرد المالكيّة ومعهم الحنابلة باستخراج أصل من أصول الفقه، وهو ما يُعرف بـ « سدّ الذّرائع »، وهي تعني : الوسائل أو الأسباب الّتي يُتَوَصّل بها إلى شيء محظور (أي : ممنوع).وقد عرّفها الإمام المازري بقوله : (مَنعُ ما يجوز لئلاّ يتطرّق به إلى مالا يجوز ).وعقد العلاّمة محمد صدّيق حسن خان القِنّوجي (ت1307هـ=1889م) في كتابه (حصول المأمول من علم الأصول) بابا بعنوان : "سدّ الذّرائع" ، ثمّ عرّفها بقوله :هي المسألة الّتي ظاهرها الإباحة، ويُتوصّل بها إلى الفعل المحظور ..ومن أحسن ما يُستدلّ به على هذا الباب، قوله صلى الله عليه وسلم : "ألا وإنّ حمى الله المعاصي،فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه" وهو حديث صحيح، ويُلحق به حديث : " دَعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك " وهو حديث صحيح أيضا .

أمّا دليلها من القرآن الكريم، فهو قوله تعالى في آية سورة البقرة :  ( يا أيّها الّذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم ) آية 104. قال العلاّمة الشّيخ حسنين محمّد مخلوف: « هذه الآية أصل في سدّ الذّرائع ». وقال العلاّمة الإمام الشّيخ محمّد الطّاهر بن عاشورفي خاتمة تفسيره الآية : « وقد دلّت هذه الآية على مشروعيّة أصل من أصول الفقه – وهو من أصول المذهب المالكي – يلقّب بسدّ الذّرائع، وهي الوسائل الّتي يُتوسَّل بها إلى أمر محظور.وقال الإمام ابن القيّم : "إنّ سدّ الذّرائع رُبعُ التّكليف ".