قضايا اجتماعية

من هو ذو القرنين؟

dou alkarnijn

أجمعوا علي أنه كان ملكا عادلا، كريما، سمحا، نبيلا مع أعدائه، صعد إلي المقام الأعلى من الإنسانية معهم. وقد حدد أزاد الصفات التي ذكرها القرآن لذي القرنين،ورجع لهذه المصادر اليونانية فوجدها متلاقية تماما مع القرآن الكريم، و كان هذا دليلا قويا آخر علي صحة ما وصل إليه من تحديد لشخصية ذي القرنين، تحديدا لا يرقي إليه شك.

                                                                ذو القرنين شخصية حيرت المفكرين أربعة عشر قرنا و كشف عنها ( أبو الكلام أزاد )

ماذا قال المفسرون و المؤرخون عن ذو القرنين ؟
يذكر تفسير الكشاف للزمخشري :أنه الإسكندر وقيل أنه عبد صالح.نبي.ملك، و ذكر رواية عن الرسول صلي الله عليه و سلم، أنه سمي ذا القرنين لأنه طاف قرني الدنيا يعني جانبيها شرقا و غربا. و قيل كان لتاجه قرنان.كان على رأسه ما يشبه القرنين.. والإمام ابن كثير :يذكر في تفسيره : أنه الإسكندر ثم يبطل هذا. كان في زمن الخليل إبراهيم عليه السلام و طاف معه بالبيت. و قيل عبد صالح. وأورد في تاريخه ”البداية و النهاية ” جـ  ص 102 مثل ذلك و زاد أنه نبي أو مَلَك.أما القرطبى في تفسيره فقد أورد أقوالا كثيرة أيضا : كان من أهل مصر واسمه ” مرزبان “، ونقل عن ابن هشام أنه الاسكندر، كما نقل روايات عن الرسول صلي الله عليه و سلم، بأنه ملك مسح الأرض من تحتها بالأسباب. وعن عمر و على رضي الله عنهما بأنه مَلَك.أوعبد صالح و هي روايات غير صحيحة.وقيل أنه الصعب بن ذي يزن الحميرى، وكلها روايات و أقوال تخمينية ولا سند لها.أما الآلوسى في تفسيره، فقد جمع الأقوال السابقة كلها تقريبا، و قال : لا يكاد يسلم فيها رأى، ثم اختار أنه الاسكندر المقدوني و دافع عن رأيه بأن تلمذته لأرسطو، لا تمنع من أنه كان عبدا صالحا.. أما المفسرون المحدثون فكانوا كذلك ينقلون عن الأقدمين.
موقف أبو الكلام آزاد من هذه الأقوال :لم يرتض أبوالكلام آزاد (عالم الهند المعروف ترجم معاني القرآن إلى اللغة الأوردية) قولا من هذه الأقوال، بل ردها،وقال عنها:إنها قامت على افتراض مخطيء لا يدعمه دليل، و عنى بالرد على من يقول بأنه الإسكندر المقدوني..بأنه لا يمكن أن يكون هو المقصود بالذكر في القرآن، إذ لا تعرف له فتوحات بالمغرب، كما لم يعرف عنه أنه بنى سدا، ثم إنه ما كان مؤمنا بالله، ولا شفيقا عادلا مع الشعوب المغلوبة، وتاريخه مدون معروف. كما عنى بالرد على من يقول بأنه عربي يمني..بأن سبب النزول هو سؤال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين لتعجيزه وإحراجه. و لو كان عربيا من اليمن لكان هناك احتمال قوي لدي اليهود- على الأقل- أن يكون عند قريش علم به، و بالتالي عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيصبح قصد اليهود تعجيز الرسول صلى الله عليه وسلم غير وارد و لا محتمل. لكنهم كانوا متأكدين حين سألوه بأنه لم يصله خبرعنه،وكانوا ينتظرون لذلك عجزه عن الرد.سواء قلنا بأنهم وجهوا السؤال مباشرة أو أوعزوا به للمشركين في مكة ليوجهوه للرسول صلى الله عليه وسلم.ثم قال :” والحاصل أن المفسرين لم يصلوا إلى نتيجة مقنعة في بحثهم عن ذي القرنين، القدماء منهم لم يحاولوا التحقيق،والمتأخرون حاولوه،ولكن كان نصيبهم الفشل. و لا عجب فالطريق الذي سلكوه كان طريقا خاطئا. لقد صرحت الآثار بأن السؤال كان من قبل اليهود وجهوه مباشرة أو أوعزوا لقريش بتوجيهه -فكان لائقا بالباحثين أن يرجعوا إلى أسفار اليهود و يبحثوا هل يوجد فيها شيىء يلقي الضوء على شخصية ذي القرنين، إنهم لو فعلوا ذلك لفازوا بالحقيقة “  لماذا ؟لأن توجيه السؤال من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم لإعجازه ينبىء عن أن لديهم في كتبهم وتاريخهم علما به، مع تأكدهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم أو العرب لم يطلعوا علي ما جاء في كتبهم..فكان الاتجاه السليم هو البحث عن المصدرالذي أخذ منه اليهود علمهم بهذا الشخص..و مصدرهم الأول هو التوراة. وهذا هو الذي اتجه إليه أزاد، وأمسك بالخيط الدقيق الذي وصل به إلي الحقيقة.. و قرأ و بحث و وجد في الأسفار،وما ذكر فيها من رؤى للأنبياء من بني إسرائيل و ما يشير إلى أصل التسمية :“ذي القرنين” أو ” لوقرانائيم” كما جاء في التوراة.. وما يشير كذلك إلي الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية، وهوالملك “كورش” أو “خورس ” كما ذكرت التوراة و تكتب أيضا “غورش” أو “قورش”. هل يمكن الاعتماد علي التوراة وحدها ؟ يقول أزاد : ” خطر في بالي لأول مرة هذا التفسير لذي القرنين في القرآن،و أنا أطالع سفر دانيال ثم اطلعت علي ما كتبه مؤرخو اليونان فرجح عندي هذا الرأي، و لكن شهادة أخري خارج التوراة لم تكن قد قامت بعد، إذ لم يوجد في كلام مؤرخي اليونان ما يلقي الضوء علي هذا اللقب.
تمثال كورش :ثم بعد سنوات لما تمكنت من مشاهدة آثار إيران القديمة ومن مطالعة مؤلفات علماء الآثار فيها زال الحجاب، إذ ظهر كشف أثري قضي علي سائر الشكوك، فتقرر لدي بلا ريب أن المقصود بذي القرنين ليس إلا كورش نفسه فلا حاجة بعد ذلك أن نبحث عن شخص آخر غيره “. ” إنه تمثال علي القامة الإنسانية، ظهر فيه كورش، و علي جانبيه جناحان، كجناحي العقاب، و علي رأسه قرنان كقرني الكبش، فهذا التمثال يثبت بلا شك أن تصور “ذي القرنين” كان قد تولد عند كورش، و لذلك نجد الملك في التمثال و علي رأسه قرنان” أي أن التصور الذي خلقه أو أوجده اليهود للملك المنقذ لهم “كورش” كان قد شاع و عرف حتى لدي كورش نفسه علي أنه الملك ذو القرنين.. أي ذو التاج المثبت علي ما يشبه القرنين.
كورش بين القرآن والتاريخ .
ومع أن ما وصل إليه أزاد قد يعتبر لدي الباحثين كافيا،إلا أنه مفسر للقرآن وعليه أن يعقد المقارنة بين ما وصل إليه و بين ما جاء به القرآن عن ذي القرنين أوعن الملك كورش..إذ أن هذا يعتبر الفيصل في الموضوع لدي المفسر المؤمن بالقرآن.. و يقول أزاد : أنه لم توجد مصادر فارسية يمكن الاعتماد عليها في هذا، و لكن الذي أسعفنا هو الكتب التاريخية اليونانية، ولعل شهادتها، تكون أوثق و أدعي للتصديق، إذ أن المؤرخين اليونان من أمة كان بينها و بين الفرس عداء مستحكم و مستمر، فإذا شهدوا لكورش فإن شهادتهم تكون شهادة حق لا رائحة فيها للتحيز، و يستشهد أزاد في هذا المقام بقول الشاعر العربي :

                                                                                                                     و مليحة شـــهدت لها ضراتها ***** و الفضل ما شهدت به الأعداء
فقد أجمعوا علي أنه كان ملكا عادلا،كريما،سمحا، نبيلا مع أعدائه، صعد إلي المقام الأعلى من الإنسانية معهم. و قد حدد أزاد الصفات التي ذكرها القرآن لذي القرنين، و رجع لهذه المصادر اليونانية فوجدها متلاقية تماما مع القرآن الكريم، و كان هذا دليلا قويا آخر علي صحة ما وصل إليه من تحديد لشخصية ذي القرنين، تحديدا لا يرقي إليه شك..فمن كورش أو قورش إذا ؟إنه من أسرة فارسية ظهر في منتصف القرن السادس قبل الميلاد في وقت كانت فيه بلاده منقسمة إلي دويلتين تقعان تحت ضغط حكومتي بابل و آشور القويتين، فاستطاع توحيد الدولتين الفارسيتين تحت حكمه، ثم استطاع أن يضم إليها البلاد شرقا و غربا بفتوحاته التي أشار إليها القرآن الكريم، و أسس أول إمبراطورية فارسية، و حين هزم ملك بابل سنة 538 ق.م.أتاح للأسري اليهود فيها الرجوع لبلادهم، مزودين بعطفه ومساعدته وتكريمه. كما أشرنا إلي ذلك من قبل.. و ظل حاكما فريدا في شجاعته و عدله في الشرق حتى توفي سنة 529 ق.م.
سد يأجوج و مأجوج
نسميه بهذا لأنه بني لمنع الإغارات التي كانت تقوم بها قبائل يأجوج ومأجوج من الشمال علي الجنوب، كما يسمي كذلك سد “ذي القرنين” لأنه هو الذي أقامه لهذا الغرض.ويقول أزاد : ” لقد تضافرت الشواهد علي أنهم لم يكونوا إلا قبائل همجية بدوية من السهول الشمالية الشرقية، تدفقت سيولها من قبل العصر التاريخي إلي القرن التاسع الميلادي نحو البلاد الغربية والجنوبية، وقد سميت بأسماء مختلفة في عصور مختلفة،وعرف قسم منها في الزمن المتأخرباسم“ميغر”أو“ميكر” في أوروبا.وباسم التتارقي آسيا، ولاشك أن فرعا لهؤلاء القوم كانوا قد انتشروا علي سواحل البحرالأسود في سنة 600 ق.م.وأغارعلي آسيا الغربية نازلا من جبال القوقاز،ولنا أن نجزم بأن هؤلاء هم الذين شكت الشعوب الجبلية غاراتهم إلي “كورش” فبني السد الحديدي لمنعها”، وتسمي هذه البقعة الشمالية الشرقية (الموطن الأصلي لهؤلاء باسم “منغوليا ”وقبائلها الرحالة “منغول”،وتقول لنا المصادراليونانية أن أصل منغول هو“منكوك” أو “منجوك” وفي الحالتين تقرب الكلمة من النطق العبري “ماكوك” والنطق اليوناني“ميكاك” ويخبرنا التاريخ الصيني عن قبيلة أخري من هذه البقعة كانت تعرف باسم “يواسي” والظاهرأن هذه الكلمة ما زالت تحرف حتى أصبحت يأجوج في العبرية.” ويقول: ”إن كلمتي :”يأجوج ومأجوج ” تبدوان كأنهما عبريتان في أصلهما و لكنهما في أصلهما قد لا تكونان عبريتين، إنهما أجنبيتان اتخذتا صورة العبرية فهما تنطقان باليونانية “كاك Gag” و“ماكوك Magog” وقد ذكرتا بهذا الشكل في الترجمة السبعينية للتوراة، وراجتا بالشكل نفسه في سائر اللغات الأوروبية “. والكلمتان تنطقان في القرآن الكريم بهمز و بدون همز.وقد استطرد أزاد بعد ذلك لذكر الأدوار السبعة أو الموجات السبع التي قام بها هؤلاء بالإغارة علي البلاد الغربية منها و الجنوبية.
مكان السد :ثم يحدد مكان السد بأنه في البقعة الواقعة بين بحرالخرز“قزوين” و“البحرالأسود” حيث توجد سلسلة جبال القوقازبينهما،وتكاد تفصل بين الشمال والجنوب إلا في ممركان يهبط منه المغيرون من الشمال للجنوب، وفي هذا الممربني كورش سده، كما فصله القرآن الكريم،وتحدثت عنه كتب الآثارو التاريخ.ويؤكد أزاد كلامه بأن الكتابات الأرمنية – و هي كشهادة محلية – تسمي هذا الجدار أو هذا السد من قديم باسم ” بهاك غورائي” أو “كابان غورائي” و معني الكلمتين واحد و هو مضيق “غورش” أو “ممر غورش” و“غور”هو اسم “غورش أو كورش”. ويضيف أزاد فوق هذا شهادة أخري لها أهميتها أيضا وهي شهادة لغة بلاد جورجيا التي هي القوقاز بعينها.فقد سمي هذا المضيق باللغة الجورجية من الدهور الغابرة باسم ” الباب الحديدي “. وبهذا يكون أزاد قد حدد مكان السد وكشف المراد من يأجوج و مأجوج.. و قد تعرض لدفع ما قيل أن المراد بالسد هو سد الصين، لعدم مطابقة مواصفات سد الصين لمواصفات سد ذي القرنين و لأن هذا بني سنة 264 ق.م. بينما بني سد ذي القرنين في القرن السادس قبل الميلاد.كما تعرض للرد علي ما قيل بأن المراد بالسد هو جداردربند،أوباب الأبواب كما اشتهرعند العرب بأن جدار دربند بناه أنوشروان ( من ملوك فارس من 531 – 579 م ) بعد السد بألف سنة،وأن مواصفاته غير مواصفات سد ذي القرنين وهو ممتد من الجبل إلي الساحل ناحية الشرق و ليس بين جبلين كما أنه من الحجارة و لا أثر فيه للحديد و النحاس.وعلى ذلك يكون المقصود بالعين الحمئة هو الماء المائل للكدرة و العكارة وليس صافيا. و ذلك حين بلغ الشاطيء الغربي لآسيا الصغري و رأي الشمس تغرب في بحر إيجه في المنطقة المحصورة بين سواحل تركيا الغربية شرقا و اليونان غربا وهي كثيرة الجزر و الخلجان.والمقصود بمطلع الشمس هو رحلته الثانية شرقا التي وصل فيها إلي حدود باكستان و أفغانستان الآن ليؤدب القبائل البدوية الجبلية التي كانت تغير علي مملكته. و المراد ببين السدين أي بين جبلين من جبال القوقاز التي تمتد من بحر الخزر ( قزوين ) إلي البحر الأسود حيث إتجه شمالا. و لقد كان أزاد بهذا البحث النفيس أول من حل لنا هذه الإشكالات التي طال عليها الأمد ، و حيرت كل المفكرين قبله. و حقق لنا هذا الدليل ، من دلائل النبوة الكثيرة.. رحمه الله و طيب ثراه..

                                                                   ( د.عبد المنعم النمر / مجلة العربي العدد 184)