مقالات

الحذف في القرآن الكريم

الحذف

" الحذف" أسلوب معهود وكثير في كلام العرب ،إذا كان في الكلام ما يدل عليه. يعمدون إليه لتحقيق أغراض بلاغية معينة، تفيد في تقوية الكلام، وإخراجه على الأسلوب الأمثل.ومن أقوالهم في ذلك ما ذكره ابن جني في كتابه (الخصائص) تحت عنوان: باب في شجاعة العربية ، قال: " اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى..." وقد جاء القرآن على وفق نهج العرب في الكلام، فاعتمد الحذف أسلوباً من جملة أساليبه البلاغية.

" الحذف" لغة: الإسقاط. واصطلاحاً: إسقاط جزء من الكلام، أو كله لدليل يدل عليه. 
وهو أسلوب معهود وكثير في كلام العرب ،إذا كان في الكلام ما يدل عليه. يعمدون إليه لتحقيق أغراض بلاغية معينة، تفيد في تقوية الكلام، وإخراجه على الأسلوب الأمثل.ومن أقوالهم في ذلك ما ذكره ابن جني في كتابه (الخصائص) تحت عنوان: باب في شجاعة العربية ، قال: " اعلم أن معظم ذلك إنما هو الحذف، والزيادة، والتقديم، والتأخير، والحمل على المعنى...". وقال أيضاً: " حذفت العرب الجملة، والمفرد، والحرف، والحركة ". وقال الجرجاني في (دلائل الإعجاز) منوهاً بقيمة أسلوب الحذف:
"هو باب دقيق المسلك، لطيف المأخذ، عجيب الأمر، شبيه بالسحر، فإنك ترى به ترك الذكرأفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد في الإفادة، وتجدك أنطق ما تكون إذا لم تُبِنْ". 
وقد جاء القرآن على وفق نهج العرب في الكلام، فاعتمد الحذف أسلوباً من جملة أساليبه البلاغية.
فوائده  : ذكر علماء اللغة والبلاغة أن الحذف في الكلام لا يكون عبثاً، وإنما يكون لغرض وفائدة، كأن يكون الحذف بقصد التفخيم والتعظيم،أو زيادة اللذة باستنباط المعنى المحذوف،أوطلباً للإيجازوالاختصار أو لغير ذلك من الفوائد البلاغية. قال الجرجاني في هذا السياق: "ما من اسم حذف في الحالة التي ينبغي أن يحذف فيها، إلا وحذفه أحسن من ذكره". 
أسبابه : للحذف أسباب تدفع إليه، وتسوغ اللجوء إليه، من ذلك الاختصاروالاحترازعن العبث بناء على الظاهر،نحو قولك: الهلال والله، والتقدير: هذا الهلال والله،فحذف المبتدأ استغناء بدلالة الحال؛ إذ لو ذكره لكان عبثاً. ومن ذلك التنبيه على أن الزمان لا يُسعف بالإتيان بالمحذوف،وأن الاشتغال بذكره يفضي إلى تفويت المهم،نحو قوله تعالى: { ناقة الله وسقياها } (الشمس:13)،فحذف الفعل على التحذير، والتقدير: احذروا ناقة الله فلا تقربوها. ومنها التفخيم والإعظام، من ذلك قوله تعالى في وصف حال أهل الجنة: {حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها } (الزمر:73)،فحذف جواب الشرط؛ إذ كان وصف ما يجدونه ويلقونه عند ذلك لا يتناهى،فجعل الحذف دليلاً على ضيق الكلام عن وصف ما يشاهدونه. ومن هذا الباب أيضاً، قوله تعالى: { فغشيهم من اليم ما غشيهم } (طه:78)أي: غشيهم ما لا يعلم كنهه إلا الله. ومنها: التخفيف؛ لكثرة جريانه في كلام العرب، كما حذف حرف النداء في قوله سبحانه: {يوسف أعرض عن هذا } (يوسف:29)،وتقدير الكلام: يا يوسف.ومن هذا القبيل قوله عزوجل }:والليل إذا يسر} )الفجر:4)، حذفت الياء للتخفيف. والأصل: "يسري". ومنها رعاية خواتم الآيات (الفاصلة)، نحو قوله تعالى:} ما ودعك ربك وما قلى } (الضحى:3)؛إذ الآيات السابقة واللاحقة لها منتهية بالألف المقصورة. ومنها شهرة المحذوف حتى يكون ذكره وعدمه سواء، من ذلك قوله سبحانه:  }ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا{ .
أدلته : تقدم أن الحذف لا بد أن يكون لدليل، ودليل الحذف قد يكون دليلاً يقتضيه العقل، وقد يكون دليلاً يقتضيه الشرع، وقد يكون العادة، وقد يكون السياق، وقد يكون غير ذلك، وهاك بعض تفصيل لذلك. 
مثال الدليل الذي يقتضيه العقل قوله تعالى:  }واسأل القرية التي كنا فيها} (يوسف:82)، فإنه يستحيل عقلاً تكلم الأمكنة إلا معجزة، فكان لا بد من تقديرسائل عاقل، فقالوا: التقدير: واسأل أهل القرية. ونحو هذا قوله سبحانه : }فقبضت قبضة من أثرالرسول } (طه:96)، فدليل العقل يقتضي أنه إنما قبض من أثر حافر فرس الرسول. ومثال الدليل الذي يقتضيه الشرع قوله تعالى : }فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر{ )البقرة:184)، وتقدير الكلام: من كان مريضاً أو على سفرفأفطر، فعليه أن يقضي ما أفطره من أيام.وقد يكون دليل الحذف العادة، كقوله تعالى : }قالوا لونعلم قتالا لاتبعناكم } (آل عمران:167)، أي: مكان قتال، والمراد مكاناً صالحاً للقتال؛ لأنهم كانوا أخبر الناس بالقتال، والعادة تمنع أن يريدوا لو نعلم حقيقة القتال، فلذلك قدره مجاهد: مكان قتال. وقد يكون دليل الحذف اللفظ نفسه، كقوله تعالى }بسم الله الرحمن الرحيم} (الفاتحة:1)، فاللفظ يدل على أن فيه حذفاً؛ لأن حرف الجر(الباء) لا بد له من متعلق.وقد يكون دليل الحذف سياق الكلام، كقوله سبحانه : }لم يلبثوا إلا ساعة من نهاربلاغ} (الأحقاف:35)، أي: هذا بلاغ، بدليل ظهوره في موضع آخر: }هذا بلاغ للناس }(إبراهيم:52(. 
شروطه :ذكر اللغويون بعض الشروط ليستقيم أسلوب الحذف في الكلام،ومن أهم تلك الشروط لصحة الحذف: أن يكون في الكلام دلالة على المحذوف، إما من لفظه أو من سياقه، وإلا لم يتمكن من معرفته، فيصير اللفظ مخلاً بالفهم؛ ولئلا يصير الكلام لغزاً، فيبعد عن الفصاحة، وهو معنى قولهم: " لا بد أن يكون فيما أبقى دليل على ما ألقى." ومن الأمثلة على هذا الشرط قوله سبحانه :  }واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام{  (النساء:1)، والتقدير: ارحموا الأرحام. وهذا مستفاد من اللفظ.
أقسامه :يأتي الحذف في كلام العرب - وكذلك في القرآن الكريم - على أقسام، منها:
1 ـ الاقتطاع: وهو ذكرحرف من الكلمة وإسقاط الباقي،كقوله سبحانه }وامسحوا برءوسكم } (المائدة:6) قيل: إن (الباء) هنا أول كلمة (بعض) ثم حذف الباقي، والتقدير: فامسحوا بعض رؤوسكم. وجعل بعضهم من هذا القسم حروف فواتح السور. 
2 ـ الاكتفاء: وهوأن يقتضي المقام ذكرشيئين بينهما تلازم وارتباط، فيُكتفى بأحدهما عن الآخر.وأمثلة هذا القسم كثيرة،أبرزها قوله تعالى: {وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر} (النحل:81) أي: والبرد.ومنه أيضا قوله سبحانه:{وله ما سكن في الليل والنهار } (الأنعام:13)،والمراد: وما تحرك في النهار،وإنما آثرذكر (السكون)؛ لأنه أغلب الحالين على المخلوق من الحيوان والجماد. 
3 ـ الإضمار: وهوأن يضمرمن القول المجاورلبيان أحد جزأيه، كقوله تعالى:{ ولوكنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك} (آل عمران:159)، وقد شهد الحس والعيان أنهم ما انفضوا من حوله، وانتفى عنه صلى الله عليه وسلم أنه فظ غليظ القلب. ونحو هذا قوله سبحانه:{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون } (الأنفال:23)،المعنى: لو أفهمتهم عليه،لما أجدى فيهم التفهيم،فكيف وقد سُلبوا القوة الفاهمة! فعُلِم بذلك أنهم مع انتفاء الفهم أحق بفقد القبول والهداية. 
4 ـ أن يستدل بالفعل لشيئين، وهو في الحقيقة لأحدهما، فيضمر للآخر فعلاً يناسبه، كقوله سبحانه: }والذين تبوءوا الدار والإيمان } (الحشر:9)، والتقدير: واعتقدوا الإيمان. ونحو هذا قوله عز وجل:    }لهدمت صوامع وبيع وصلوات } (الحج:40)، و(الصلوات) لا تهدم، فالتقدير: ولتُركت صلوات. 
5 ـ أن يقتضى الكلام شيئين، فيقتصرعلى أحدهما؛ لأنه المقصود كقوله سبحانه: { قال فمن ربكما يا موسى} (طه:49)، قال ابن عطية: ولم يقل: (وهارون)؛ لأن موسى المقصود المتحمل أعباء الرسالة. 
6 ـ أن يذكر شيئان، ثم يعود الضمير إلى أحدهما دون الآخر كقوله سبحانه:{ وإذا رأوا تجارة أولهوا انفضوا إليها } (الجمعة:11)، لم يقل: إليهما، وتقدير الكلام: إذا رأوا تجارة انفضوا إليها، أو لهواً انفضوا إليه، فحذف أحدهما؛ لدلالة المذكور عليه. ونحو هذا قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها } (التوبة:34)، فإنه سبحانه ذكر الذهب والفضة، وأعاد الضمير على الفضة وحدها؛ لأنها أقرب المذكورين؛ ولأن الفضة أكثر وجوداً في أيدي الناس. وهذا القسم من الحذف كثير في القرآن. 
7 ـ الحذف المقابلي،وهوأن يجتمع في الكلام متقابلان، فيحدف من واحد منهما مقابله؛ لدلالة الآخر عليه كقوله سبحانه: { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا } (التوبة:102)، وتقدير الكلام: خلطوا عملاً صالحاً بسيئ،وآخر سيئاً بصالح؛لأن الخلط يستدعي مخلوطاً ومخلوطاً به،والمعنى: تارة أطاعوا،وخلطوا الطاعة بكبيرة،وتارة عصوا،وتداركوا المعصية بالتوبة.ونحوهذا قوله تعالى: {ويعذب المنافقين إن شاء أويتوب عليهم } (الأحزاب:24)،قال المفسرون: تقديره: يعذب المنافقين إن شاء، فلا يتوب عليهم،أو يتوب عليهم فلا يعذبهم. وهذا القسم كثير في القرآن أيضاً.
أخيرا : الحذف في القرآن الكريم قد يكون حذفاً لاسم، أو فعل، أو حرف. و(الاسم) المحذوف قد يكون مبتدأ،أو خبراً،أوفاعلاً،أومفعولاً وهوكثير،أومضافاً وهوكثير،أومضافاً إليه وهو قليل،أو جاراً ومجروراً، أو موصوفاً،أو صفة،أو معطوفاً،أو معطوفاً عليه،أو مبدلاً منه ،أو موصولاً، أو ضميراً متصلاً، أو حالاً، أو منادى،أو شرطاً، و جواباً للشرط وهوكثير،أو جملة،أو قولاً. و(الفعل) المحذوف قد يكون فعلاً خاصًّا، أو فعلاً عامًّا. و(الحرف) المحذوف قد يكون حرفاً جارًّا وهو كثير، أو حرفاً في نهاية الكلمة، وهو أكثر ما يكون في نهاية الآيات.