أنشطة جمعية الأندلس

مناقب الفقهاء السبعة ـ 2

العلماء

2ـ القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق
هوالقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق أحد فقهاء المدينة المشهورين،أبوه محمد بن أبي بكر الصديق وأمه بنت يزدجرد الثالث آخر ملوك فارس الساسانيين. ذهب مع والديه إلى مصر عندما عين والده واليا عليها من قبل أمير المؤمنين على رضى الله عنه ثم توفى أبويه في مصر، وعمره سبع سنوات فعاد إلى المدينة لتربيه عمته ام المؤمنين عائشة رضى الله عنها. يتحدَّث هو عن نفسه، يقول:

(لما قُتل أبي بمصر, جاء عمي عبد الرحمن بن أبي بكر, فاحتملني أنا وأختي الصغيرة، ومضى بنا إلى المدينة، فما إن بلغناها, حتى بعثت إلينا عمَّتي عائشة رضي الله عنها .قال: فحملتنا من منزل عمنا إلى بيتها، وربَّتنا في حجـرها، فما رأيتُ والدةً قط ، ولا والدا أكثر منها برًّا، ولا أوفر منها شفقة، كانت تطعمني بيديها، ولا تأكل معنا، فإذا بقي من طعامنا شيءٌ أكلته، وكانت تحنو علينا حنوَّ المرضعات على الفطيم، تغسل أجسادنا، وتمشِّط شعورنا، وتلبسنا الأبيضَ الناصعَ من الثياب، وكانت لا تفتأ تحضُّنا على الخير، وتمرّسنا بفعله، وتنهانا عن الشرِّ، وتحملنا على تركه، وقد دأبت على تلقيننا ما نطيقه من كتاب الله تعالى، وتروي لنا ما نعقله من حديث رسول الله، وكانت تزيدنا برًّا وإتحافا في العيدين، فإذا كانت عشيِّةُ عرفة, حلقت لي شعري، وغسلتني أنا وأختي، فإذا أصبحنا ألبستنا الجديدَ، و بعثت بنا إلى المسجد النبوي, لنؤدِّي صلاة العيد، فإذا عُدنا منه, جمعتني أنا وأختي, وضحَّت بين أيدينا.

قلتُ ذات يوم لعمتي عائشة رضي الله عنها:(يا عمَّتي، اكشِفي لي عن قبر النبي صلى الله عليه وسلم وقبر صاحبيه، فإني أريد أن أراهما، وكانت القبورُ الثلاثة ما زالت داخل بيتها، وقد غطَّتها بما يسترها عن العين، فكشفت لي عن ثلاثة قبور، لا مشرفة ولا واطئة، قد مهِّدت بصغار الحصى الحمر، مما كان في باحة المسجد، فقلتُ: أين قبرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأشارت بيدها، وقالت: هذا، ثم تحدَّرت على خدَّيها دمعتان كبيرتان، فبادرتْ فمسحتْهما حتى لا أراهما، وكان قبرُ النبي صلى الله عليه وسلم مقدَّما على قبر صاحبيه، فقلت: وأين قبر جدي أبي بكر؟ قالت: هو ذا، وكان مدفونا عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: وهذا قبرُ عمر؟ قالت: نعم، وكان رأسُ عمر رضوان الله عليه عند خصر جدي قريبا من رجل النبي عليه الصلاة و السلام) .
كان ثقة عالما فقيها رفيعا، إماما ورعا كثير الحديث، أخذ علمه وفقهه من عمته أم المؤمنين السيدة عائشة وعن حبر الأمة عبد الله بن عباس، وأخذ عن عبد الله بن عمر العلم والورع وعن أبي هريرة الرواية عن رسول الله. قال عن عبد الله بن عمر: "امتاز عبد الله بالورع، والعلم الجم، والوقوف عما لا علم له به". وقال يحيى بن سعيد: "ما أدركنا بالمدينة أحدًا نفضله على القاسم".
دخل أعرابي المسجد، فقال له: (أيهما أعلم أنت أم سالم؟ فتشاغل عنه القاسمُ، أعاد عليه السؤال، فقال: سبحان الله! أعاده مرة ثالثة، فقال له: ذاك سالم يا بن أخي يجلس هناك، فقال: من في المجلس؟ للهِ أبوه، لقد كره أن يقول: أنا أعلم منه فيزكِّي نفسَه، وكره أن يقول: هو أعلم مني فيكذب، وكان أعلمَ من سالم.
مرة كان في مِنًى، والناسُ حوله متحلِّقون يسألونه، فيقول في بعض السؤال: لا أدري، فأخذهم العجبُ! فقال لهم: (واللهِ ما نعلم كلَّ ما تسألون عنه، ولو علمناه ما كتمناه، ولا يحلُّ لنا أن نكتمه، ولأنْ يعيش الرجلُ جاهلا بعد أن يعرف حقَّ الله عليه خيرٌ له من أن يقول لشيء لا يعلم: أعلمه) .
قصَد مكةَ يريد الحجَّ وهو في سنٍّ متقدِّمة، وفيما هو في طريقه، أتاه اليقينُ، فلما أحسَّ بالأجل التفت إلى ابنه، وقال: (إذا أنا متُّ، فكفِّني بثيابي التي كنتُ أصلي بها؛ قميصي، وإزاري، وردائي، فذلك كان كفنُ جدِّك أبي بكر، ثم سوِّ عليَّ لحدي، والحق بأهلك، وإياكم أن تقفوا على قبري، وتقولوا: كان وكان، فما كنتُ شيئا) .
اختلف المؤرخون في تاريخ وفاته ولكن الأرجح أن وفاته كانت سنة ثمان ومائة. وكانت سنه عند وفاته ثلاثا وسبعين سنة أو سبعين حسب اختلاف الروايات في تاريخ وفاته.
                                                            (من دروس موسم 2016)