12022024الإثنين
Last updateالجمعة, 17 تشرين2 2023 8pm

خطب ومحاضرات

الدرع المسروقة وقيمة العدل

45888713

لا يوجد كتاب في الدنيا يحفظه مئات الألوف عن ظهر قلب إلا القرآن . يسره الله تعالى للذكر والحفظ . يجمعه الرجال والنساء والصبيان قي صدورهم لايضيعون منه كلمة ولا يسقطون منه حرفا. بل إنك تجد كثيرا من الأعاجم يحفظه تعبدا وتقربا الى الله عزوجل وان لم يفهم ما يقرأ ويحفظ. ثم إن هذا الكتاب حفظ من التحريف والتبديل بحفظ الله له فلا يستطيع أحد أن يزيد فيه حرفا واحدا أو ينقص منه.فلا زال كما أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة الروح الأمين ،وسيظل كذلك حتى تقوم الساعة.

 

والقرآن نور من الله لعباده بجانب نور الفطرة والعقل ،"نور على نور" وقد جاء وصفه بأنه نور في آيات كثيرة :"ياايها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" (النساء174) ،" فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا "(التغابن 8) إلى غير ذلك من الآيات.ومن خصائص النورانه بين لنفسه مبين لغيره ،فالقرآن يكشف بنوره الأشياء الغامضة ويوضح الحقائق ويدفع الشبهات ويميزالحق من الباطل ويهدي الحائرين ويزيد الذين اهتدوا هدى.أليس من العجيب والغريب أن يعيش ملايين المسلمين اليوم خارج هذا النور؟ في ظلام دامس وفتن هالكة مهلكة ؟هل فطنت أمة القرآن إلى أنها وقعت فيما وقعت فيه أمة التوراة التي وصفها الله بقوله : "مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل اسفارا"(الجمعة 5)هل يليق هذا بأمة محمد صلى الله عليه وسلم ؟ إن من حق القرآن علينا أن نحسن التعامل معه ليس حفظا فقط وتلاوة واستماعا بل أيضا اتباعا له وعملا به واحتكاما لشريعته كما فعلت ذلك أمتنا في قرونها الأولى وهي خير القرون إذ أحسنت فهمه إلى حد كبير وفقهت مقاصده وعملت به في كل مجالات الحياة ثم أحسنت الدعوة اليه على بصيرة وهدى من الله.

تدبروا معي هذه الحادثة الفريدة التي وقعت للصحابة في السنة الثالثة للهجرة حيث كانت رواسب الجاهلية لا زالت مؤثرة في المجتمع المسلم الناشئ وحيث كانت علاقات القربى والمصلحة لازالت قائمة بين بعض  المسلمين وبعض المشركين والمنافقين وفي وقت كان فيه اليهود في المدينة يحاربون الاسلام والمسلمين ويطلقون سهامهم المسمومة ،وفي ظروف اقتصادية صعبة حيث اشتد الفقر بالصحابة لدرجة وصلوا معها إلي ربط الحجارة علي بطونهم من شدة الجوع . في خضم هذه الظروف مجتمعة ، صحابي من الأوس حديث العهد بالإسلام اسمه رفاعة ابن النعمان كان يمتلك درعا غنمها في إحدي الغزوات مع النبي صلى الله عليه وسلم فسرق هذا الدرع والذي كان بمنزلة ثروة كبيرة في ظل هذا الفقرواتهم بسرقته رجل من الخزرج اسمه بشير وكان هو أيضا حديث العهد بالإسلام .وكان الذي رآه إبن أخ لرفاعة اسمه قتادة وكان  قوي الإيمان فذهب إلي النبي واخبره بالذي حصل.اغتم النبي صلى الله عليه و سلم وحزن للخبر فالسارق مسلم وسيشمت اليهود والكفار في المسلمين ، كما ستتفجرمن جديد مشكلة الأوس والخزرج الذين آخى النبي بينهم عندما قدم إلى المدينة بعد حروب طويلة. وبينما هو كذلك ،إذا بثلاثة من الخزرج  يأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويخبرونه أن بشير بريء، وأن سارق الدرع يهودي اسمه زيد بن السمين،وقد رأوه يدخل بالدرع إلى بيته. فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عددا من الصحابة من بينهم محمد بن مسلمة ليفتشوا بيت اليهودي فلم يجدوا شيئا في البيت لكن وجدوا الدرع مدفونة في حديقة منزله فذهبوا بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم  . حينذاك طلب الثلاثة الخزرجيين من النبي صلى الله عليه وسلم أن يخطب في الناس يدافع عن بشير ويبرئه ويجادل عنه.

صعد النبي صلى الله عليه وسلم المنبر وبرأ بشيرا، وقال لقتادة الذي جاءه بالخبريلومه: "جئتني بغيربينة تتهم أهل بيت من المسلمين؟" لدرجة أن قتادة ندم ندما شديدا على إخباره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.رغم أنه كان صادقا فقد رأى بشيرا ومعه الدرع، وبشيرهذا كان إيمانه ضعيفا، فحين علم أن النبي عرف بجريمته،أراد أن يتخلص من الدرع فقفز بها إلى حديقة زيد المجاورة لبيته، ودفن الدرع في الحديقة ، ثم نادى على اربعة رجال من عائلته واعترف لهم بأنه أخطأ، وفعل ما فعل، وإنها ستكون فضيحة للعائلة وسط القوم، وطلب منهم أن يذهبوا إلى رسول الله ويخبروه بأن زيدا هو سارق الدرع ،رفض أحدهم واعتبر أن ذلك خيانة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فطلبوا منه أن يسكت عن الأمرفوعد بالصمت رغم معرفته ببراءة اليهودي.وذهب الثلاثة الآخرون بالفعل إلى النبي وكان ما كان. وانتهى الموضوع ولم تحدث أزمة جديدة بين الأوس والخزرج وأحس المسلمون بالراحة لوأد الفتنة، فصلوا العشاء وناموا مرتاحين.

لكن عدل السماء يأتي به جبريل فيقول: يا رسول الله، اليهودي بريء، وبشير هو السارق. (صلوا على محمد) نزل جبريل قبل الفجر، ليتمكن النبي من إعلان براءة المظلوم أثناء صلاة الفجر، ولأن تأخير العدل ظلم ،لا يهم أن يفرح اليهود ،ولا يهم أن يقوم خلاف جديد بين الأوس والخزرج.المهم أن يظهر في الناس ميزان العدل ..يصعد النبي صلى الله عليه وسلم على المنبر بعد صلاة الفجر ويقرأ الآيات الكريمة :

"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما. واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما.ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما.يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا.     ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا.ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما. ومن يكسب إثما إنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما.ومن يكسب خطيئة أوإثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا"(النساء 105ـ 112)

لقد اعتقد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن السارق هواليهودي لوجود القرائن ضده، ولكن الوحي نزل بخلاف ذلك؛ فلم يكتم صلى الله عليه وسلم شيئًا بل قام وأعلن بوضوح وصراحة أن اليهودي بريء، وأن السارق مسلم!!انظروا الى عدله صلى الله عليه وسلم فالعدل عنده أمر مُطلق لا يتوقف عند أصحاب الأديان والأجناس والعصبيات والمصالح المخالفة..   أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن زيدا اليهودي بريء وأن السارق هو بشير، فقام قتادة ورفاعة يبكيان ويقولان: صدق الله، والدرع لله، وتصدقا لله بالدرع.اللهم افتح مسامع قلوبنا لذكرك وارزقنا طاعتك وطاعة رسولك وعملا بكتابك. ادعوا الله عسى أن تكون ساعة استجابة .

الحمد لله {الذي يقبل التوبة عن عباده.ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد.} الشورى 25/26. واشهد أن لاإله إلا الله الملك الحق المبين واشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين.اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.عباد الله:

هذه القصة توضح قيمة العدل ،العدل الذي قامت عليه وبه السموات والأرض،العدل الذي هو اسم من أسماءالله الحسنى .في تلك الظروف الصعبة السياسية والاقتصادية والعقدية ،تنزل هذه الآيات لتنصف رجلا يهوديا اتهم ظلما بالسرقة وتدين المتآمرين عليه وهم بيت من الأنصار والأنصارهم عدة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجند المقاومة .أي مستوى من العدالة والتسامي والقيم العالية .قصة تشهد أن هذا القرآن وأن هذا الدين من عند الله .المسألة كانت أكبر من تبرئة متهم وإن كان ذالك مهما وإنما كانت أبعد من ذلك. كان المقصد هو إقامة الميزان الذي لا يميل مع الهوى ولا مع العصبية للقبيلة أو العشيرة أوالجنس ،كانت مسألة تطهير المجتمع الناشئ من رواسب الجاهلية العمياء .كان من الممكن عدم التشديد في الحادثة وفضحها أمام الناس فالمتهم يهودي واليهود لاتترك سهما مسموما إلا أطلقته في حرب الاسلام والمسلمين ولكن الأمرالالهي أكبر من هذه الاعتبارات الصغيرة فلا مجال للباقة ولا للسياسة ،لا تمويه ولا مداهنة ، وإنما هو العدل بين الناس بهذا المستوى الذي لا يعرفه الناس إلا بوحي من الله وعون من الله .

والآن ،اتمنى بعدما سمعت ما سمعت ،وأنت تقرأ هذه الآيات أو تسمعها أن تستحضرما ذكرناه من أسباب النزول لأن ذلك يساعد على التدبروالتفكر في شيء أهم من أسباب النزول ألا وهو المقاصد والحكم التي جاءت بها هذه الآيات.قف مثلا عند قول الله عز وجل " ولا تكن للخائنين خصيما" يعني لا تكن مناصرا لمن يخونون الأمانات ، العامة والخاصة ، وانت تعلم انه كاذب ،ظالم، فاجرمنافق يسعى لمصلحته .وقف عند قوله عز من قائل:" ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" فالله يبين لك ذلك فيقول :"إن الله لايحب من كان خوانا أثيما " ليست هذه الآيات خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بزمان خاص او حالات خاصة بل هي أوامر من الذي يعلم السر وأخفى والذي يفتح لك باب العفو والمغفرة إذا أذنبت فاستغفرت وعدت إليه .

لنسال أنفسنا:هل نحن عادلين فيما نملك، في بيوتنا، في اسرنا، في دولنا ، مع انفسنا ومع الناس؟ شهود الزور يملؤون المحاكم في بلداننا الاسلامية ،مستعدون للقسم بالله العظيم ظلما وزورا مقابل دريهمات ، بين الزوج والزوجة من الظلم والظلمات ما ينافي المودة والرحمة والعدل التي جاءت في أحكام الشرع .

الظلم في الميراث ، في الوصية،في العدل بين الأولاد، الظلم في تحمل المسؤوليات.لا نراعي مسالة الرجل المناسب في المكان المناسب ،ولا نحترم ذوي الكفاءات ولا أصحاب الاختصاص،إنما هو الهوى والعصبية  للقبيلة اوالشرف المزعوم. فاصاب الأمة ما أصابها من تخلف وهوان. كان شيخ الإسلام  ابن تيمية رحمه الله يقول"إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة،ولا يقيم الدولة الظالمة وإن كانت مسلمة " في بلداننا الاسلامية يشيع الظلم بشتى ألوانه واشكاله من أعلى سلطة في البلاد إلى أدنى رجل في القرية، لم نعد نميز بين الصادق والكاذب،الجميع يكذب على الجميع،والكل يزين للكل والشيطان يزين للجميع ، فاللهم رحماك بهذه الأمة قبل أن لا يبقى قرآن ولا سنة ،فقد روى الطبراني بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :" لَيُنْتَزَعَنَّ هذا القرآن من بين أظهركم ، قيل له : يا أبا عبد الرحمن : كيف يُنتزع وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا ؟ قال :يُسْرَى عليه في ليلة فلا يبقى في قلب عبد ولا مصحف منه شيء ،ويصبح الناس كالبهائم " ثم قرأ قول الله تعالى : ( ولئن شنا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً ) (الإسراء ـ 86 .) فسارعوا عباد الله الى الاهتمام بكتاب الله فهما وتدبرا وتنزيلا عمليا في كل مجالات الحياة ..فتلك هي النجاة ، تلك هي النجاة ،تلك هي النجاة.

 

محمد وحيد الجابري

جمعة 17 صفر 1440 / 26 أكتوبر 2018

المركز الإسلامي نيوخاين / هولندا

Bookmakers bonuses with www gbetting.co.uk site.