12022024الإثنين
Last updateالجمعة, 17 تشرين2 2023 8pm

خطب ومحاضرات

الستر والنصيحة

الستر

المسلم الحق عملة نادرة في زماننا فإذا ظفرت به فاحرص عليه، للأثر (المؤمن كثير بأخيه) وموسى عليه السلام سأل ربه أن يقويه بأخيه لأداء مهمة الدعوة: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) والجاهل هو الذي لا يجد مكانه إلا بأن ينحي غيره بالتجريح والطعن وهذا الصنف لا يبارك الله فيه ولا في قوله ولا في عمله، فحرمة المسلم عظيمة، للحديث:(كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)

الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم  أيها المسلمون  ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.أما بعد،قال تعالى : إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون [النور:19] ، عباد الله :

إشاعة الفاحشة في المجتمع الإسلامي أسلوب يستخدمه أعداء الله للذهاب بالبقية من حياء الأمة، ويستخدمه الجهلة من المسلمين لينالوا ممن هم خيرا منهم بأن ينسبوا إليهم ما ليس فيهم والمسلم مأمور بالستر.فما الستر؟ وما أنواعه؟ ومتى يفضح الله العبد؟ الستر: التغطية والحفظ. قال تعالى: "له معقبات من بين يديه ومن خلقه يحفظونه من أمرالله"[الرعد:11]. قال مجاهد: (ما من عبد إلا وله ملك يحفظه إلا من شيء أذن الله به فيصيبه).والستر من خُلق الله عز وجل، للحديث: (أن الله حيي ستير يحب الحياء فإذا اغتسل أحدكم فليستتر).والبيوت أسرار فلا يجوز نشرها، للحديث:( إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها).ولا يجوز كشف العورة إلا إذا اقتضى الأمر، للحديث:(عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، قال: قلت يا نبي الله عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: احفظ عورتك إلا من زوجتك).ولا يجوز ذكر ما بين الرجل وزوجته فيما يتعلق بالجماع للحديث:(إن رسول الله صلى ثم سلّم ثم أقبل عليهم بوجهه فقال: مجالسكم . من منكم الرجل الذي أتى أهله أغلق بابه وأرخى ستره ثم يخرج فيحدث فيقول: فعلت بأهلي كذا وفعلت كذا، فسكتوا، فجثت امرأة على ركبتيها فقالت: أي والله إنهم يتحدثون وإنهن ليتحدثن، فقال: هل تدرون ما مثل من يفعل ذلك؟ إن مثل من يفعل ذلك مثل شيطان وشيطانة لقي أحدهما صاحبه في السكة فقضى حاجته منها والناس ينظرون إليه).وأما أنواعه:ستر الخلقة والتكوين: يقول الإمام الغزالي: (والله تعالى كثير الستر على عبيده ومن ستره سبحانه أنه أظهر الحسن من الجسد وأخفى القبيح منه كما قال تعالى:" لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم" [التين:4]. فأخفى الدماء في العروق وأخفى العروق تحت الجلود، ومن ستره سبحانه أنه جعل موطن الخواطر هو القلب فلا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولو اطلع الخلق على ما يدور في قلبك لمقتوك ولكنه ستر الله سبحانه. ستر لأوليائه: في الدنيا يصرفهم عن المعاصي للحديث:(ما هممت بشيء مما كانوا في الجاهلية إلا حال الله بيني وبينه، ثم ما هممت حتى أكرمني الله بالرسالة، قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي لو أبصرت لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب، فقال: افعل، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفا، فقلت: ما هذا؟ قالوا: عرس، فجلست أسمع فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس وفي الليلة الثانية أصابني مثل ما أصابني مثل أول ليلة ثم ما هممت بعده بسوء).في الآخرة، للحديث:(يدني الله تعالى المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كنفه (أي ستره) فيقرره بذنوبه فيقول: أتعرف ذنب كذا في يوم كذا، فيقول: أعرف، فيقول الله عز وجل: أنا سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى صحيفة حسناته وأما الكافر والمنافق فينادي عليهم على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين ).ستره على عصاته وأعدائه: فيقابل إساءة العبيد وكفرهم بالإحسان إليهم للحديث القدسي:(إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويعبد غيري، وأرزق ويشكر سواي، أتحبب إليهم بالنعم وأنا الغني وهم يبتعدون عني بالمعاصي وهم الفقراء، خيري إليهم نازل وشرهم إلي صاعد).كان لأبي حنيفة جار يعاقر الخمر وينشد:

                               أضاعوني وأي فتى أضاعوا     ليوم كريهة وسداد ثغر.

فافتقد صوته يوما فسأل، فقيل: إن عسس الليل أخذوه (شرطة الليل) فعزم على زيارته فلقيه تلميذه أبو يوسف، فقال: إلى أين؟ قال: لزيارة جاري، قال: هذا السكير، قال: نعم، قال: وكيف وأنت إمام المسلمين؟ قال أبو حنيفة: لقد نفعني، كان يقول: أضاعوني وهذا حال كل بعيد عن الله: ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا [طه:124]. فعظمت نعمة الإسلام، و كان يقيم الليل في معصية، فقلت: هذا يصبر نفسه على قيام الليل وهو في معصية ولا أصبر نفسي على قيامه وأنا في طاعة فأخذت أقيم الليل، هو ستر الله تعالى عليه شهورا وعسس الليل لا يهتدون إليه، فإذا كان هذا ستره على عصاته فكيف يكون ستره لأوليائه. وإكراما لمجيء أبي حنيفة يطلق الوالي سراح السجناء وتكون توبة نصوحا لله تعالى. ستر الأخوة: المسلم الحق عملة نادرة في زماننا فإذا ظفرت به فاحرص عليه، للأثر (المؤمن كثير بأخيه) وموسى عليه السلام سأل ربه أن يقويه بأخيه لأداء مهمة الدعوة: (واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا) [طه:31-36]. والجاهل هو الذي لا يجد مكانه إلا بأن ينحي غيره بالتجريح والطعن وهذا الصنف لا يبارك الله فيه ولا في قوله ولا في عمله، فحرمة المسلم عظيمة، للحديث:(كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه).فالغيبة حرام، للحديث:(من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه يوم القيامة). والنميمة حرام، للحديث:(لا يدخل الجنة نمام). وهو الذي ينقل الكلام لإيقاع الأذى بين الناس والمساعدة على إيذاء المسلم وقتله حرام، للحديث: (لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبهم الله في النار). والنصيحة الفاضحة لا تجوز يقول السلف: (من نصح أخاه بينه ويبنه فقد زانه ومن نصح أخاه في ملأ فقد شانه)، ولقد أصبح الكثيرون لا يحسنون النصيحة إلا بالأسلوب الفاضح المؤذي.وأما متى يفضح الله العبد؟ فإن ذلك يحدث:إذا كان حريصا على فضح إخوانه، للحديث:(يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن قلبه لا تتعبوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته) المرأة إذا تبرجت وخلعت الستر الذي أمر الله به، خلع الله عنها ستره وحفظه ورعايته، للحديث:(أيما امرأة وضعت ثيابها في غير بيتها إلا هتك الله عنها ستره).المجاهرة بالمعصية، للحديث: (كل أمتي معافى إلا المجاهرون ومن المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل ويصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويصبح يكشف ستر الله عليه) فليس فينا معشر البشر من لا يخطئ ولا ينحرف عن سنن الحق، بل إن فينا من الغرائز والطباع ما يميل بنا إلى الرشد والغي، والخير والشر، وليس كل إنسان يعرف خطأه أو يهتدي إليه، وبذلك كان من حق الأخ على أخيه أن يبصره وينصح له في أمره، إبقاء على حق الاخوة ودفعا للأذى عن أخيه وعن المجتمع كله .ويوم يتساهل الناس في هذا الحق، فيتملق الصديق صديقه، ويهمل الأخ حق أخيه عليه في نصح والإرشاد تسوء علائق بعضهم ببعض، وتنقلب الصداقة عداوة، ويموج المجتمع عندئذ بالشر والإثم، فقد أخبرنا الله تعالى أن بني إسرائيل استحقوا اللعنة والحرمان لأنهم كانوا لا يتناهون عن المنكر: (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون )إلا أن حدود النصيحة قد اضطربت عند كثير من الناس، فانقلب بعضهم إلى التشهير كما انقلب آخرون إلى التملق، وفي ذلك من الشر ما يربو ويزيد على الخير، ولذلك كانت النصيحة على مراتب:أولها: أن لا تبادر إلى تصديق ما يقال عن جارك أو صديقك أو أحد ما من الناس، بل تتثبت في ذلك حتى تستيقنه ،فإن الناس اعتادوا إشاعة السوء، وهم إلى إساءة الظن أسرع من إحسانه فلا تصدق كل ما يقال ولو سمعته من ألف فم حتى تسمعه ممن شاهده بعينه، وعندئذ يجب عليك التأكد والتثبت والبعد عن الظن والوهم: (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم) ، وإذا رأيت من أخيك أمرا، أو سمعت عنه كلاما يحتمل وجهين، فاحمله محملا حسناً وأنزله منزلة الخير، فإن ذلك ألصق بالأخوة وأجدر بمكارم الأخلاق، وانظروا كيف يلتمس الإنسان لأخيه العذر: فقد قالت امرأة لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان أجود قريش في زمانه، قالت: ما رأيت قوما ألأم من إخوانك، قال لها : لم ذلك؟ قالت: أراهم إذا أيسرت لزموك، وإذا أعسرت تركوك، فقال لها : هذه والله من كرم أخلاقهم، يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم، ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم. وثاني خطوات النصيحة: أن تقدر طباع الناس، وأن تعرف أنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء فلا تطمع أن لا تعثر على زلة أو هفوة لأحد من إخوانك، ولكن احمل ذلك على الضعف الإنساني الذي لا يكاد يخلوا منه أحد، وانظر أنت في نفسك ألا تقع في مثل تلك الزلات، فلماذا تريد من الناس مالا تريده من نفسك، وما أروع قول الله تعالى في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها عندما يقول على لسان امرأة العزيز:(وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي )وقال الإمام الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصه، ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل. اللهم اشغلنا بما خلقتنا لأجله، ولا تشغلنا بما خلقته لنا، وأدم علينا عين عنايتك.أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه.

الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، لا إلاه إلا هو إليه المصير،.....
ثالث خطوات النصيحة: أن لا تحاكم الأمر الذي تريد إنكاره وتحكم عليه بالخطأ والانحراف، من وجهة نظرك فحسب، بل انظر إليه من وجهة نظر صاحبه أيضا، فقد يكون مجتهدا فيما رأى، متحريا الخير فيما سلك من سبيل، فلا تسارع إلى الإنكار عليه، وما دام من الممكن أن يكون له وجه من الحق ودليل من الرأي .ورابع خطوات النصيحة: إذا تأكدت من الخطأ والانحراف، وليس هنالك مجال لعذر أو شبهة، وجب أن تقدم النصيحة إلى من تنصحه سرا، بينك وبينه، لا أمام الناس ولا على ملأ من الأشهاد، فإن النفس الإنسانية لا تقبل أن يطلع أحد على عيبها.إنك إذا نصحت أخاك سرا بينك وبينه كان ذلك أرجى للقبول وأدل على الإخلاص، وأبعد عن الشبهة، وأما إذا نصحته علنا فإن في ذلك شبهة الحقد التشهيد وإظهار الفضل والعلم، وهذه الحجب تمنع من استماع النصيحة والاستفادة منها، ولقد كان من أدب رسول الله في إنكار المنكر أنه إذا بلغه عن جماعة مما ينكر فعله، لم يذكر أسماءهم علنا وإنما يقول: ( ما بال أقوام يفعلون كذا ..) وهذا من أرفع أساليب النصح في التربية يدلنا عليها المربي الأكبر رسول الله قال رجل لعلي بن أبي طالب أمام الناس: يا أمير المؤمنين : إنك أخطأت في كذا وكذا. . وأنصحك بكذا وكذا، فقال له علي: ( إذا نصحتني فانصحني بين وبينك، فإني لا آمن عليك ولا على نفسي حين تنصحني علنا بين الناس).وقيل يوما لبعض العلماء: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني بيني وبينه فنعم، وإن مرّعني بين الملأ فلا. وهذا هو الحق فإن النصح في السر حب وشفقة. والنصح في العلن انتقاص وفضيحة، وهذا هو قول الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سرا فقد نصحه وزانه، ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. أما الذين يشهرون بعيوب الناس ويهتكون حرماتهم في المجالس بحجة النصح والجهر بالحق، فذلك جهل بدين الله شائن، وتلك هي الغيبة التي نهانا الله عنها ورسوله، وليست النصيحة إلا أن تذكر أخاك إذا أخطأ وتنصحه إذا انحراف، وليست الغيبة إلا أن تذكره بما يكره وهو غائب عنك .نعم، إنك إذا نصحت إنسانا مرة بعد مرة، واستمر في إثمه ومخازيه وكان ممن يؤتم به أو يستمع لقوله : جاز لك أن تذكر للناس ما هو عليه التحذير من اتباعه، لا للتشهير به شخصيا، فإن التشهير لا يجوز في حال من الأحوال مهما كان الباعث على ذلك فقد علمنا الله تعالى أن نتبرأ من أعمال العصاة فقال: )لولا أن قومك حديثو عهد بالإسلام لبنيت الكعبة على قواعد إسماعيل ولجعلت لها بابين بابا يدخل منه الناس وبابا يخرجون منه (فهذا امتناع من إصلاح في وضع البيت الحرام خشية أن يؤدي إلى فتنة الناس في دينهم وهذا هو الفقه في دين الله تعالى، أن لا تزيل الشر بما هو أشد، وأن لا ترفع الضرر بما هو أكبر منه .فيا أخي المسلم: إذا استوت لك خطوات النصيحة هذه، ورأيتها واجبة عليك، فينبغي أن تؤدها برفق وأسلوب لا ينفر من تنصحه، ولا تبدوا أنك متعال عليه، فقد أرشدنا الله تعالى إلى ذلك فقال: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة )، فما أحوجنا أيها المؤمنون إلى الناصحين الصادقين، الذين يصلحون ما أفسد الناس ويقومون ما طرأ من اعوجاج، فاللهم اجعلنا هداة مهدتين راشدين .

جمعة 18 أغسطس 2007 / 3 شعبان 1428
مسجد الرحمن ـ دبيلت / هولندا

Bookmakers bonuses with www gbetting.co.uk site.