إن التدين الحقيقي هوأن تلتزم بالصدق في قولك وعملك ومواعيدك،وأن تكون أمينًا في عملك،صادقًا مخلصًا في نيتك، فإن لم تكن فيك هذه الخصال فلست متدينًا ولو تظاهرت بمظهر الإسلام في ألفاظك ولباسك. إن الإسلام ليس حركات يباشرها المصلي في محرابه أو همهمة تلوكها ألسن الذاكرين، إنه مسرح للحياة، يظهر فيه المسلم حقيقة إسلامه وإيمانه في معاملته مع الآخرين،الدين معاملة والإسلام يريد منك هداية تائه ضلّ طريقه، أو معونة يائس انقطع أمله،
الحمد لله القاهر فوق عباده. خلق الخلق من غير سبق .فطر السماوات والأرض بقدرته، ودبر النور في الدارين بحكمته، وما خلق الإنس والجن إلا لعبادته، فالطريق إليه واضح ، ولكن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وهو أعلم بالمهتدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً، والصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله،صلاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدين وعلى آلك وأصحابك وسلم.أما بعد أيها المسلمون لقد مَنَّ الله تعالى على هذه الأمة بدين الإسلام، وأكرمها بنور الإيمان، أخرجها به من الظلام، وألف بين القلوب، فاجتمعت الكلمة،وقويت الشوكة، وارتبطت برباط المودة والألفة، وماتت دواعي الشتات والفرقة والاختلاف ،{وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62، 63].
ما أجمل صورة المجتمع المسلم حين يستمرّ على تلك الثوابت، ويعمل بتلك الأسس والقواعد، حيث يبقى مجتمعًا قويًا متماسكًا، تسود أفراده روح المودة والسماحة، في انسجام تام، وتآلف فريد،لا تؤثر فيه الرياح العاتية، ولا المؤثرات الخارجية.إن منهج الإسلام في تربية أفراده قائم على المحبة والتقارب،والبعد عن كلّ ما يسبب الجفوة والشحناء والتباعد والبغضاء . المسلم ينبغي أن يكون قريبًا من إخوانه، عطوفًا ودودًا، يصلهم ويحسن إليهم، يُظهر محاسنهم ويبرز فضائلهم، يخفي عيوبهم ويصفح عن سيئاتهم، يتحمل أذاهم ويعفو عن زلاتِهم، يقول صلى الله عليه وسلم: (وكونوا عباد الله إخوانًا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه)متفق عليه.والعاقل هو من يداري إخوانه ويصدق معهم، ويكون وفيًا لهم؛ فلا خير في صداقة إلا مع الوفاء،أما الأُخوَّة الزائفة التي تطفو على السطح، براقة في الظاهر، جوفاء من الداخل، فلا خير فيها؛ فهي كالسراب يحسبه الظمآن ماء فإذا جاءه لم يجده شيئا. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: وضع عمرُ للناس ثماني عشرة كلمة، كلها حِكَم، قال: (ما كافأتَ من يعصي الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه، وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظنن بكلمة خرجَتْ من مسلم شرًا وأنت تَجِدُ لها في الخير محملاً، ومن تعرض للتهمة فلا يلومن من أساء الظن ولا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة في يديه، وعليك بإخوان الصدق، فعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعُدة في البلاء، وعليك بالصدق وإن قتلك الصدق، ولا تتعرض لما لا يعنيك، ولا تسأل عما لم يكن، فإن فيما كان شُغلاً عما لم يكن، ولا تطلبن حاجتك إلى من لا يُحب لك نجاحها، ولا تصحبن الفاجر فتعلَّم فجوره، واعتزل عدوك، واحذر صديقك إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشي الله، وتَخَشَّع عند القول، وذل عند الطاعة، واعتصم عند المعصية، واستشر في أمرك الذين يخشون الله، فإن الله تعالى قال: إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]وهكذا يجب أن يكون المسلم ، صادقًا مع إخوانه، واضحًا معهم، باطنه كظاهره، لا يوغر في صدره حقدًا عليهم، ولا يجد في نفسه كراهة لهم، حاله في غيبتهم كحاله معهم في حضرتهم، إن حضر أخاه في مجلس أثنى عليه بما يستحقه، وأكرم وفادته،ولا يكن كحال البعض، يظهر الود لأخيه، والصفاء والمحبة له، وبمجرد أن يتوارى عنه وينصرف من حضرته يبدأ بالكلام في عرضه.لقد حذر رسول الله من هذا التلوّن، وبيَّن أن ذلك من صفات الأشرار وأخلاقهم، فعن أبي هريرة أن رسول الله قال:(وتجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه) رواه البخاري ومسلم، وفي لفظ: (ذو الوجهين في الدنيا يأتي يوم القيامة وله وجهان من نار)، وفي لفظ:(من كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار) رواه ابن حبان في صحيحه. فالله تعالى يخلقه على أبشع صورة وأقبح هيئة؛ لأنه كان متملقًا في حياته، متلوّنًا في مقابلاته.قال رسول الله (أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر).النفاق مرض خطير يمرض القلب ويقتله،ويفسد الدين ويهلكه، ولخطر النفاق والمنافقين على البلاد والعباد أنزلت سورة كاملة اسمها المنافقون، تبيّن عوراتهم، وتهتك أستارهم.واهتمّ رسولنا بتفسير القرآن وتبيانه، فكان يرسم للمجتمع النهج المستقيم، ويحذرهم من الاعوجاج في الدنيا والدين . لقد أوتي صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، يتكلم باللفظ الذي يذهل العقول ويحيّر البلغاء والخطباء، فقوله:(إذا اؤتمن خان) شمول وتوسيع كبير جدًا، يشمل جميع أنواع الأمانة، كانت هذه الأمانة معنوية أو مادية. وعدم الأمانة هو الخيانة، والخيانة تدل على النفاق، فمن أراد أن يفتش عن طهارة قلبه من النفاق فلينظر إلى أمانته وعدمها، وصدق رسولنا الكريم إذ يقول:(لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له).إن العلاقات بين الأفراد والجماعات المبنية على الخيانة ،علاقات هشة زائلة، وكان عليه الصلاة والسلام يتعوذ من الخيانة فيقول: (اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة)، وبيّن أنه في آخر الزمان ترفع الأمانة، فحدث عن رفع الأمانة فقال:(ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه). المنافق إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، فمجانبة الكذب مجانبة للنفاق، والكذب من أمراض اللسان، وهو نقل الأخبار على غير حقيقتها، من إشاعات وأحاديث ملفقة تفتك بالمجتمع وأفراده. ومن أخطر أنواع الكذب ما استحل به دم امرئ مسلم أو عرضه أو ماله، والأشد من ذلك كله الكذب على الله ورسوله.ولقد حذر رسولنا من الكذب ورغّب في الصدق فقال:(عليكم بالصدق، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا. وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا).إن الكذاب عرّض نفسه للاحتقار والمهانة، وفقد جانبًا عظيمًا من مقومات إنسانيته، فلو كان شجاعًا لما أخفى الحقيقة، ولو كان أمينًا لما زوّر الأخبار، ولو كان عفيفًا لترفع عن الاختلاق والادعاء الباطل، فأي حياة وصداقة وشركة وإخاء تصلح مع إنسان يبرئ المفسدين والمجرمين، ويتهم الأبرياء والصالحين، ويجعل من الظالم مظلومًا، ومن الحقيقة خيالاً، ومن الصدق بهتانًا؟! إن هذا الخطر العظيم هو الذي جعل الكذاب ينضم في صفوف المنافقين،(وإذا حدث كذب) . المنافق إذا عاهد غدر، إذا أعطى عهدًا نقضه وغدر، وإذا خاصم فجر، وإذا حدث بينه وبين خصمه خلاف يتجاوز حده في الانتصار لنفسه من خصمه، ولا يتورع عن استغلال الفرص لإيذاء خصمه، ويتمادى في الإيذاء، فينكر حقوق خصمه، ويستحل لنفسه ماله، ويستبيح عرضه، وهذا التمادي في الخصومة علامة ظاهرة من علامات النفاق.إن سلوك المؤمن الحق جهة خصمه العدل أو الإحسان، "وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ "[الشورى:40]ولقد ربى الإسلام أتباعه على التسامح والعفو، وأن لا يتمادوا في الخصومة، فقال جل وعلا:" خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ "[الأعراف:199]وقال عن عباد الرحمن:" وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا" [الفرقان:63].إن الإسلام يحث على السمو بالنفس الإنسانية، فالمسلم الحق هو الذي يسمو بنفسه عن المهانة والذلة.الإسلام عمل وعبادة وحسن معاملة، معاملة خالية من الكذب والخيانة والغدر والفجور.إن التدين الحقيقي هو أن تلتزم بالصدق في قولك وعملك ومواعيدك، وأن تكون أمينًا في عملك، صادقًا مخلصًا في نيتك، فإن لم تكن فيك هذه الخصال فلست متدينًا ولو تظاهرت بمظهر الإسلام في ألفاظك ولباسك. إن الإسلام ليس حركات يباشرها المصلي في محرابه أو همهمة تلوكها ألسن الذاكرين، إنه مسرح للحياة، يظهر فيه المسلم حقيقة إسلامه وإيمانه في معاملته مع الآخرين،الدين معاملة،والإسلام يريد منك هداية تائه ضلّ طريقه، أو معونة يائس انقطع أمله، الإسلام يريد منك المساعدة والإعانة ومواساة البائس وتفريج كربة المكروبين.وما انكمش الإسلام وتقلص إلا بعد أن ترك أبناؤه أوامره وتعاليمه،{ لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة:177]. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفره إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله،صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أما بعد:أيها الإخوة المسلمون، لقد حارب الإسلام العصبية، أيّ عصبية كانت، سواءً كانت عصبية لقبيلة أو أسرة أو مال أو منصب أو لغة أو لون، وجعل الناس أمام ربهم سواسية، يتفاضلون بميزان واحد فقط وهو التقوى "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ الله أَتْقَاكُمْ" [الحجرات: 13]. ولقد خطب الرسول في الناس فقال:(يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد)رواه أحمد. فلماذا يتفاخر الناس؟! ولمَ يزهو بعضهم على بعض ما دام ربهم سبحانه وتعالى واحدا وأصلهم جميعًا واحد وهو أنهم من تراب؟! لقد حارب الإسلام كلّ مظهر من مظاهر العصبية القبلية التي كانت منتشرة في الجاهلية, وأصبح القرآن الكريم والسنة المطهرة سدًا منيعًا أمام من يحاول إظهار التعالي أو التفاخر بقبيلته وقوتها، فالعصبية تبعث على الحمية، والحمية من صفات الجاهلية، ولقد قال عنها النبي: (دعوها فإنها منتنة). نعم والله، إنها لمنتِنَة وخبيثة تفرّق بين الناس، وتجعلهم طبقات، فتثور الأحقاد في النفوس، وتتحرّك الضغائن في الصدور، ثم يكيد الناس بعضهم لبعض، فأيّ أمة تتقدّم وأي إنجاز يتمّ والناس يكره بعضهم بعضا والحقد يحرق القلوب والأفئدة؟وتعجب أشدَّ العجب عندما ترى من الناس من لا هم له سواء كان في عمله أو متجره أو في مجلسه، لا همَّ له إلا أن يثير هذه القضية ويشد أنظار الناس إليها، وهي قضية العصبية، وهو بالطبع يقصد بذلك أن يظهر علو مكانته ورفيع منزلته وإشهار قبيلته، وهو بعمله هذا يحتقر من أمامه من المسلمين، وما درى المسكين أن رسول الله تبرأ منه ومن فعله القبيح هذا وهو الصادق المصدوق حيث قال:(ليس منا من دعا إلى عصبية)رواه أبو داود.وقد غضب النبي صلى الله عليه وسلم أشد الغضب على أبي ذر لما عيّر بلالا الحبشي وناداه بأمه قائلاً له:(يا ابن سوداء)، غضب عليه الصلاة والسلام على أبي ذر السيّد العربي لما سبّ بلالاً فقال:(يا أبا ذر، إنك امرؤ فيك جاهلية)، فما كان من أبي ذر رضي الله عنه إلا أن ذهب لبلال واستسمَح منه ووضع له خدَّهُ على التراب وطلب من بلال أن يدوس بقدمه على خده إمعانًا منه في الاعتذار له وتأديبا للنفس الأمّارة بالسوء وترويضًا لها.الفاروق عمر رضي الله عنه لم يرض أن يهين ولد عمرو بن العاص قبطيًا كافرًا، حيث ضرب ابن عمرو بن العاص هذا القبطيّ قائلاً له: خذها وأنا ابن الأكرمين، فاشتكي القبطيّ لعمر، فاستدعى عمر عمرو بن العاص وولده، ومكن القبطي من القصاص من ابن عمر، وثم قال كلمته الشهيرة التي سجّلها التاريخ بحروف من نور وبمداد من ذهب: (يا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟!). ولقد رفع الله بعض الناس على بعض كما قال:{وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا } [الزخرف: 32]، وفي هذه الآية تنبيه على حكمة الله تعالى في تفضيل الله بعض العباد على بعض في الدنيا؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًا أي: لِيُسَخّرُ بعضهم بعضًا في الأعمال والحرف والصنائع، فلو تساوى الناس في الغنى ولم يحتج بعضهم إلى بعض لتعطلت كثير من مصالحهم ومنافعهم، يقول النبي في حديث صحيح يدل على اصطفاء الله له:(إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشًا من كنانة، واصطفى هاشمًا من قريش، واصطفاني من بني هاشم)، وبالرغم من هذا الاصطفاء فإنه يقول:(لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، بل قولوا: عبد الله ورسوله)، وحين دخلت عليه امرأة وخافت وارتبكت طمأنها وسكن روعتها وقال لها:(لا تخافي؛ إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد)وكان يقول:(يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم، لا أُغني عنكم من الله شيئًا، يا عباس بن عبد المطلب لا أُغني عنك من الله شيئًا، يا صفية عمة رسول الله لا أُغني عنكِ من الله شيئًا، ويا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أُغني عنكِ من الله شيئًا) رواه البخاري ومسلم. فهؤلاء مع شرف نسبهم وقرابتهم من رسول الله لم ينفعهم ذلك دون أن يشتروا أنفسهم من عذاب الله بالتقوى والعمل الصالح، ولقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح:(من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)، وهنيئًا هنيئًا لمن جمع شرف النسب وشرف العمل، فذلك هو الفوز المبين والشرف العظيم، وأعظم من جمع كل ذلك سيدنا رسول الله ، فهو المصطفى المختار.وإن من شرِّ من لم ينفعه شرف نسبه وعظمة حسبه وكثرة ماله عم رسول الله أبا لهب، فلما آذى النبي وأشرك بالله ولم يعمل صالحا استحق أن يقول له الله عز وجل: { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ [المسد: 1-3].و إن من خير من رفعه الله بصالح العمل وسابق الإيمان بلال بن رباح، وقد كان عبدًا مملوكًا محتقرًا وضيعًا، فرفعه إيمانه، فأصبح مؤذن رسول الله ، وصعد رضي الله عنه بقدميه السوداويتين سطح الكعبة، ورفع صوته مؤذنًا على مرأى من صناديد قريش وعظمائها يوم الفتح مناديًا بكلمة التوحيد: الله أكبر الله أكبر.إن هذه العصبية التي يرفضها الإسلام ويحاربها هي التي أدت إلى إضعاف المسلمين وتأخرهم كما أدت إلى ظهور التعصبات المذهبية والنعرات القبلية ، ولو تتبعنا تاريخ هذه التعصبات لوجدنا وراءها أعداء الله من يهود ونصارى، فلقد بدأت بالمنافق اليهودي عبد الله بن سبأ، واستمرت بأشكال متنوعة في العصر الأموي والعباسي، ونجح الأعداء في التفريق بين المسلمين، هذا عربي ، وهذا بربري، حتى انهار الإسلام في الأندلس، وتمكن اليهود من بذر فتنة القومية والعصبية بين الشريف حسين وبين العثمانيين بأن الأشراف من أهل البيت وهم أحق بالخلافة من المسلمين الأتراك الأعاجم، حتى صدق الشريف حسين هذه المقولة وأعلن الثورة على إخوانه المسلمين الأتراك في السلطنة العثمانية التي حافظت على الإسلام ثمانية قرون،وهذا ما يحدث اليوم في أفغانستان والعراق والسودان وفي كثير من أنحاء العالم الإسلامي بل انتقلت العدوى إلى الجماعات الصغيرة خارج العالم الاسلامي وتحديدا في بلاد المهجر.فعوض ان نجتمع ونتوحد ونعمل لخدمة الاسلام ونصرته وتمكينه في الأرض تجدنا نقيم المعارك لأتفه السباب ،فيضيع الجهد ويضيع الوقت وتنعدم الثقة بين الإخوة الذين يقفون في صف واحد كالبنيان الذي يريده الله ورسوله مرصوصا مستقيما.
اللهم اجعل صدورنا سليمة، ونفوسنا كريمة، ولا تجعل في قلوبنا غِلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم. اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمةُ أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادةً لنا في كلِّ خيرٍ، واجعل الموت راحةً لنا من كل شرٍّ.اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والسلامة من كلِّ إثمٍ، والغنيمة من كلِّ برٍّ، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. اللهم ألِّف بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، واهدنا سبل السلام، ونجِّنا من الظلمات إلى النور، وجنِّبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل الطاعة ويعاف فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد. اللهم صل وسلم على عبدك ونبيك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
جمعة 20 ربيع الأول 1429 / 28 مارس 2008
مسجد الرحمن ـ دبيلت