الحمد لله ذي القوَّةِ القادرَة والحِكمةِ الباهِرَة، لا ينفُذ إلا أمرُه، ولا يمضِي إلا قدَرُه، "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ " [يس: 82، 83]، وأشهد أن لا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهَد أن محمّدًا عبده ورسوله، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.أيّها المسلمون،قد قَصّ الله تعالى علينا في كتابه العديد من القصص لنتّعظ ونعتبر،
فكتاب الله هو المنبع للهدى والحق، فيه يجد المسلم النور الذي يضيء له الطريق، ومنه يستقي القوة والخشية من الله، ومن أعرض عن هذا الصراط فما هو بحي ولو قوي جسمه ونبض عرقه، بل هو ميت كما قال عز من قائل:{ أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَـٰتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَا كَذَلِكَ زُيّنَ لِلْكَـٰفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [الأنعام:122].المؤمن حينما يقرأ كتاب ربه بتدبر وبقلب غيرمقفول،فإنه يكون مثل المتعبّد في مصلاه .ففي آيات القرآن وقصصه وأمثاله فوائد عظيمة وعبر ومواعظ نفيسة لابد من إطالة النظر فيها وأخذ الدروس منها.
سنقف اليوم إن شاء الله مع بضع آيات من سورة الأعراف حيث يقصّ الله تعالى علينا خبر أهل القرية التي كانت حاضرة البحر حيث قال عز من قائل: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ ٱلْقَرْيَةِ ٱلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ ٱلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي ٱلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ. وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ٱللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ. فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ ٱلسُّوء وَأَخَذْنَا ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ. فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ. وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [الأعراف:163-167]هذه الآيات في سورة الأعراف تبين لنا موقف اليهود المعارضين لرسالة النبي صلى الله عليه وسلم حيث زعموا أن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لِمَا أمروا به، فأمر الله نبيه أن يسألهم على جهة التوبيخ لهم ،عن هذه القرية، وهي على المشهور من أقوال المفسرين قرية أيلة بين مَدْيَن والطُّور. وكان اليهود يكتمون هذه القصة لما فيها من السبة عليهم. حرّم الله سبحانه على أهل هذه القرية صيد الحيتان يوم سبتهم، فكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً من كل مكان في ساحل البحر. فإذا مضى يوم السبت، غاصت فلم يأت حوت واحد، ولقوا من ذلك بلاءً، فاتخذ رجل منهم خيطاً ووتداً، وأخذ حوتاً فربط في ذنبه الخيط، ثم ربطه إلى الوتد، ثم تركه في الماء، حتى إذا غربت الشمس من يوم الأحد، اجتره بالخيط ثم شواه. فوجد جار له ريح حوت، فقال: يا فلان، إني أجد في بيتك ريح نون! فقال: لا! قال: فتطلع في تنوره فإذا هو فيه، فأخبره الخبر. فقال: إني أرى الله سيعذبك. فلما أتى السبت الآخر أخذ اثنين فربطهما. فلما أمسى من ليلة الأحد أخذهما فشواهما. فلما رآه جاره لم يعجل بالعذاب ولم يُبتلى جعلوا يصيدونه، حتى كثر صيد الحوت، والمشي به في الأسواق. وأعلن الفسقة بصيده. فاطلع أهل القرية عليهم، فنهاهم الذين ينهون عن المنكر،فكانوا فرقتين: فرقة تنهاهم وتكف وفرقة تنهاهم ولا تكف. ثم وسوس الشيطان إلى أهل هذه القرية، وقال: إن الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنما نهاكم عن الأكل، فاصطادوها وخذوها في يوم السبت، وكلوها في غيره من الأيام!و قيل: وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ، فاتخذوا حياضاً على شاطئ البحر، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم تأخذونها يوم الأحد. فاتخذوا الحياض، فكانوا يسوقون الحيتان إليها يوم الجمعة فتبقى فيها، فلا يمكنها الخروج منها لقلة الماء، فيأخذونها يوم الأحد. وظلوا يفعلون ذلك زماناً. ثم تجرؤوا على السبت، وقالوا: ما نرى السبت إلا قد أحل لنا، فقامت طائفة العصاة بأخذ الحيتان يوم سبتهم، فأخذوا وأكلوا وباعوا. فنهتهم الطائفة الأخرى، وقالوا: تأخذونها، وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم! فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً. فلما طال ذلك عليهم، قالت طائفة من الناهين: لقد علمتم أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب، لم تعظون قوماً الله مهلكهم؟ وكانوا أشد غضباً لله من الطائفة الأخرى.
وقال جمهور المفسرين: إن أهل القرية افترقت ثلاث فرق، وهو الظاهر من الضمائر في الآيات: الفرقة الأولى هي الفرقة العاصية أصحاب الخطيئة، أي التي عصت وصادت، وكانوا نحوا من سبعين ألفا. والفرقة الثانية هي الفرقة المعتزلة، أي التي اعتزلت فلم تنه ولم تعص، وأن هذه الطائفة هي التي قالت للناهية:﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ﴾- تريد العاصية- ﴿ الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ ﴾. فقالت الفرقة الثالثة الناهية: ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾، إن وقع هلاك فلعلنا ننجو، وإما أن ينتهوا فيكون لنا أجرا. ولو كانوا فرقتين لقالت الناهية للعاصية: ولعلكم تتقون، بالكاف. فلما وقع عليهم غضب الله، نجت الطائفتان. الذين قالوا: ﴿ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا الله مُهْلِكُهُمْ ﴾، والذين قالوا: ﴿ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ ﴾،وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان، فجعلهم قردة وخنازير.قال الناهون والله لا نساكنكم في قرية واحدة! فقسموا القرية بجدار: للطائعين باب وللمعتدين باب. فلما كان الليل طرقهم الله بعذاب. فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم شأناً . لعل الخمر غلبتهم! فوضعوا سلماً،وأعلوا سورالمدينة رجلاً، فإذا هم قردة:الرجل وأزواجه وأولاده! فالتفت إليهم فقال: أي عباد الله، قردة والله تتصايح كالكلاب ولها أذناب! قال: ففتحوا فدخلوا عليهم، فعرفت القرود أنسابها من الإنس،ولم تعرف الإنس أنسابها من القرود .فجعلوا ينظرون إلى الرجل فيتوسمون فيه، فيقولون:أي فلان، أنت فلان؟ فيومىء بيده إلى صدره أن نعم، بما كسبت يداي. فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس فتشم ثيابه وتبكي، فيقول: ألم ننهكم عن كذا؟! فتقول برأسها: نعم!! فمكثوا ثلاثة أيام ينظر إليهم الناس ثم هلكوا. فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم.وقيل إن شباب القوم صاروا قردةً، وأن الشيوخ منهم صاروا خنازير.
أيها المسلمون ، في هذه الآيات دلالات وإشارات وتوجيه لمن ألقى السمع وهو شهيد، من ذلك تعريف هذه الأمة بطبائع اليهود من خبث ومكر وتنكّر للرسالة السماوية، يتلوّنون تلوّن الحِرْباء، مما جلب لهم الغضب من الله، فأوقع بهم شر العقوبات،{ قُلْ هَلْ أُنَبّئُكُمْ بِشَرّ مّن ذٰلِكَ مَثُوبَةً عِندَ ٱللَّهِ مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ ٱلْقِرَدَةَ وَٱلْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ ٱلطَّـٰغُوتَ أُوْلَـئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ عَن سَوَاء ٱلسَّبِيلِ} [المائدة:60] لقد كان لليهود شأن في بادئ الأمر، وأثنى الله عليهم بقوله:{ وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إِسْرٰءيلَ مِنَ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِّنَ ٱلْمُسْرِفِينَ وَلَقَدِ ٱخْتَرْنَـٰهُمْ عَلَىٰ عِلْمٍ عَلَى ٱلْعَـٰلَمِينَ [الدخان:30-32] لكنّهم بعصيانهم وجحودهم نعم الله ونشرهم الفساد في الأرض استحقوا اللعنة وانتزع الله منهم الرسالة ليضعها في أمة محمد صلى الله عليه وسلم. إن التاريخ صفحات متتابعة، يُطوى منها اليوم ما يُطوى، ويُنشر منها غدًا ما يُنشر، وإن الله جل شأنه يختبرالأمم بالرفعة والوضاعة، بالزلزلة والتمكين، بالخوف والأمن . ولذلك جاء التحذير الشديد من أن نسلك مسالكهم، بل جاء الأمر الصريح بمخالفة اليهود والنصارى في كثير من الأ حاديث. من أهم الدروس في آيات سورة الأعراف أنه ينبغي على أهل العلم وذوي الإصلاح أن يقوموا بواجب النصح والوعظ في إنكار المنكرات على الوجوه التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، ولا يمنع من الاستمرار في الوعظ والإصرار عليه عدم القبول من المخالف؛ لأنه فرضٌ فرضه الله قُبِل أم لم يُقبَل، وأن هذا هو الذي يحفظ للأمة كيانها بأمر الله، وبذلك تكون المعذرة إلى الله، وتكون النجاة من سوء المغَبّة، وبذلك يدفع الله البلايا عن البشر{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ ٱلْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، ولم يقل وأهلها صالحون؛ فإن مجرد الصلاح ليس كفيلاً في النجاة من العقوبة الإلهية الرادعة، ولأجل ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم :(لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فُتِح من رَدْم يأجوج ومأجوج مثل هذه)، وحلّق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟! قال:(نعم، إذا كثُرالخَبَث) رواه البخاري ومسلم .أيها المسلمون، إن المعاصي والمنكرات هي الداء العضال والوباء الفتاك، الذي به خراب المجتمعات وهلاكها. والتفريط في تغيير المنكرات ومكافحتها والقضاء عليها من أعظم أسباب وقوع العقاب ونزول العذاب، يقول نبينا الكريم : (ما من قوم يُعمل فيهم بالمعاصي ثم يقدرون على أن يُغيّروا ثم لا يُغيّروا إلا يوشك أن يعمّهم الله بعقاب) رواه أبو داود ، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى إلى بعض عماله: "أما بعد: فإنه لم يظهر المنكر في قوم قط ثم لم ينههم أهل الصلاح بينهم إلا أصابهم الله بعذاب من عنده أو بأيدي من يشاء من عباده، ولا يزال الناس معصومين من العقوبات ما قُمع أهل الباطل واستُخفِيَ فيهم بالمحارم". إن عدم التناهي بين المسلمين من أعظم أسباب اللعن والطرد والإبعاد عن رحمة أرحم الراحمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا، اتق الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أَكِيله وشَرِيبه وقَعِيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض)، ثم قال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المائدة:78، 79]، ثم قال:(والله، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يد الظالم ولتَأْطُرُنّه على الحق أَطْرًا ولتقصُرُنّه على الحق قَصْرًا، أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم يلعنكم كما لعنهم)رواه أبو داود والترمذي.
يا من رضيتم بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًّا ورسولاً، اسمعوا وعوا وافتحوا قلوبكم لقول نبيكم الحريص على هداكم صلى الله عليه وسلم :(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) رواه مسلم. وانظروا وتساءلوا:أين أثر تطبيق هذا الحديث في نفوسنا ومجتمعاتنا؟! أين إيماننا الصادق وطاعتنا لما جاء به محمد ؟!(من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده)، السلطان في سلطانه، والأمير في إمارته، والقائد في جيشه، والرجل في أهل بيته، وكل مسئول فيما هو مسئول عنه .عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: (ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه) رواه الترمذي وأحمد وزاد: (فإنه لا يُقرّب من أجل ولا يباعد من رزق أن يقال بحق أو يذكّر بعظيم) وقال: (لا يحقر أحدكم نفسه)، قالوا: يا رسول الله، كيف يحقر أحدنا نفسه؟! قال: (يرى أمرًا لله عليه فيه مقال ثم لا يقول فيه، فيقول الله عز وجل له يوم القيامة: ما منعك أن تقول فيّ كذا وكذا؟ فيقول: خشية الناس، فيقول الله جل وعلا: فإياي كنت أحق أن تخشى) رواه ابن ماجه. أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفير الرحيم ..يا فوج المستغفرين ادعوا الله عسى أن تكون ساعة استجابة.
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رضي لنا الإسلام دينًا، وهدانا له، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم الأنبياء وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وسلم تسليمًا كثيرًا.أما بعد ،أيها المسلمون، إن الطامة الكبرى والمصيبة العظمى أن تتوالى الفتن على القلوب، ويزول خطر المعاصي من النفوس، فيواقع الناس حدود الله وينتهكون أوامر الله، ويصبح المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، يقول رسول الهدى: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشْرِبها نُكِتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نُكِتت فيه نُكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مِرْبَادًّا كالكُوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أُشرِب من هواه) رواه مسلم. أيها المسلمون، لم يفتأ أعداء الحق يشنون على أمة الإسلام حملات متلاحقة عبر وسائل ورسائل متعددة ومتنوعة،غرضها زعزعة عقيدة الأمة وتدمير أخلاقها وطمس هويتها وتغييبها عن رسالتها. فبماذا يواجه المسلمون تلك الحملات؟! هل أغلقوا دونها الأبواب؟! هل جاهدوها حق الجهاد؟! هل قاموا بالضمانات الكافية من عدم انتشار الشر والفساد؟! لقد فتح كثير من المسلمين بسبب الغفلة عن دين الله وقلة التحفظ والتيقّظ، فتحوا بلادهم ومتاجرهم وبيوتهم وقلوبهم لتلك التيارات الهدامة ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال وكأنه يرى حالنا اليوم :(لتتبعنّ سَنَن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا،حتى لو دخلوا جُحْر ضَبّ لدخلتموه) قلنا: يا رسول الله، اليهود والنصارى؟ فقال:(فمن؟!) رواه البخاري.
عباد الله، الدرس الأخير من قصة أهل القرية أن الشارع الحكيم جاء بسدّ الذرائع المفضية إلى ما حرم الله ورسوله ، فأي نوع من أنواع الحيل الموصلة إلى ما حرم الله لا يجوز البتّة، لأنها إن كانت تخفى على البشر فهي لا تخفى على رب البشر، قال الله تعالى:{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءايَـٰتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَن يُلْقَىٰ فِى ٱلنَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي ءامِنًا يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.} [فصلت:40]. وأيًا كانت هذه الحيل، في العبادات أو المعاملات أو الأحوال الشخصية أو نحوها، لا يجوز فعلها للوصول إلى المحرم من طرف خفي، وقد انتشر مثل هذا في أوساط الكثيرين، في البنوك والمصارف والشركات ،حيل على أخذ الربا، وحيل في التخلص من الزكاة بتفريق المجتَمِع وجمع المتفرِّق. وحيل في إباحة المطلقة طلاقًا لا رجوع فيه وحيل في الوصية وحيل في أكل أموال اليتامى وفي الإرث وحيل وحيل {وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء .} إبراهيم 38 ـ أيها المسلمون، إن هذه الأمثلة ما هي إلا قطرة من بحر، القصد من ورائها تنبيه الغافلين وإنذار المتغافلين والتأكيد على خطورة انتشار الحيل المحرمة، وما تؤدي إليه من التعرض لغضب الله وسخطه ،{فَأَذَاقَهُمُ الله الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } ( الزمر26 )
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه.اللهم أصلح أمة محمد وارحم أمة محمد وانصر أمة محمد واجمع كلمة أمة محمد، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الهدى وقلوبهم على التقى ونفوسهم على المحبة ونياتهم على الجهاد في سبيلك وعزائمهم علي عمل الخير وخير العمل.اللهم أبرم لهذه الأمة أمررشد يعز فيه أهل الطاعة ويعاف فيه أهل المعصية ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر وتقال فيه كلمة الحق لا يخشى قائلها في الله لومة لائم.اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد وعبادك المؤمنين. اللهم لا تجعل لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلى غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته, ولا ميتاً إلا رحمته, ولا عاصياً إلا هديته, ولا ديناً إلا قضيته, ولا مبتلى إلا عافيته, ولا عسيراً إلا يسرته, ولا مظلوماً إلا نصرته, ولا ظالماً إلا إلى الحق أرشدته, فإن أبى فلا تدعه إلا قهرته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها برحمتك يا أرحم الراحمين" ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين " ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين " ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
مسجد الرحمن / دبيلت – هولندا
5 ربيع الثاني 1429 / 11-04-2008