( نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ محمد وحيد الجابري،إمام وخطيب مسجد الرحمن بمدينة "دبيلت/هولندا"،في الحفل الذي جمع ممثلي الأديان الثلاثة ،اليهود والنصارى والمسلمين،والذي كان شعاره هذه السنة :"السلام للعالم أجمع" بتاريخ 01ـ01ـ2006 بكاتدرائية "سان ميشيل".)
لم تصل الحضارة الانسانية طوال التاريخ إلى ما وصلت إليه في العصور الأخيرة ،حيث بلغت الأوج في التقدم العلمي والتكنولوجي ، مما كان له أثره في توفير الرفاهية والراحة للانسان في جميع مجالات الحياة ، حتى أصبحت حاجاته تُقضى بضغط بسيط على زر من الأزرار. نزل الإنسان على سطح القمر،ويحاول الآن الوصول إلى الكواكب الأبعد في الفضاء الكوني.ولكن يبقى هنا سؤال في غاية الأهمية، وهو:
هل استطاع العلم الذي رفع الإنسان إلى سطح القمر أن يحقق له السعادة على ظهر الأرض؟ الواقع المر يقول : لا، فإن العلم بمفهومه الغربي - وهو علم مادي بحت - وفر للإنسان راحة الجسم ولم يوفر له راحة النفس، حقق له الرفاهية المادية ولم يحقق له السكينة الروحية، هيأ له الوسائل والأدوات ولم يهيئ له المقاصد والغايات . ولهذا عاش الإنسان مزوق الظاهر، خرب الباطن، أشبه بقبور العظماء، مشيدة مزخرفة، وليس فيها إلا عظام نخرة .ولذلك ترى الناس الذين يعيشون تحت سلطان هذه الحضارة يشكون من القلق، والاكتئاب، واليأس، والغربة النفسية، والشعور بالضياع وتفاهة الحياة. يحسون أن هذه الحياة لا هدف لها ولا رسالة، ولا طعم ولا معنى. وهذا يحطم الإنسان من داخله. يشكو الناس في ظل هذه الحضارة من الانحلال الأخلاقي، والقلق النفسي، من التفسخ العائلي، والاضطراب العقلي، من التفكك الاجتماعي، وانتشار الجريمة ...ويشكو الكون بدوره من هذه الحضارة التي جنت على البيئة، فلوثتها بدخان المصانع، وآثار الاشعاعات والنفايات النووية. أضف إلى ذلك الإخلال بالتوازن الكوني، وما خلفه من ثقب الأوزون. ولا يدري، هذا الانسان المسكين، ما سيحدث للكون إذا ما تصاعدت وتيرة هذا التسابق الجنوني نحو امتلاك القوة.
سر ما يعانيه الناس في الحضارة المعاصرة: أنها حضارة نسيت الله، نسيت الخالق .إنها تعيش جسمًا بلا روح. وقديما قال الشاعر الهندي طاغور لأحد مفكري الغرب: صحيح أنكم استطعتم أن تحلِّقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك، ولكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كالإنسان.
لقـد أصبح من المؤكد لدى الغربيين، وذلك عبر الكثير من كتابات مفكريهم العقلاء وفلاسفتهم المشهورين، أن الإنسان - وإن بلغ من العلم ما بلغ - لا يستطيع أن يعيش بغير دين، بغير إيمان، بغير صلة بالله، وبوحي من السماء.إن الدين هو سر الوجود، وجوهر الحياة، ، وهو شيء ليس مفروضًا على الإنسان من خارجه، بل هو نابع من فطرته التي فطره الله عليها. والإنسان إذا فقد دينه وإيمانه، فقد نفسه، وفقد جذوره. الإنسان من غير دين أشبه بمن يمشي في الظلام بغير مصباح، أو كالسائر في تيه الصحراء بغير دليل.الحياة بغير دين مصادمة للفطرة.وإذ أغتنم فرصة هذا اللقاء الثاني بين أتباع الأديان السماوية الثلاث ، هذا اللقاء المميز حقا، فإني أؤكد مرة أخرى على أن الحل بين أيدينا وقريب منا وفيه فقط نجاتنا. إنه العودة إلى الله .العودة إلى الايمان، إلى تعاليم الدين .الفرد في حاجة إلى الإيمان الديني ليطمئن ويسعد، والمجتمع في حاجة إلى الايمان ليترابط ويرقى.يجب أن يعود الدين حيا نابضا إلى كل مرافق الحياة.وبذلك فقط يمكن أن نعيش معا في سلام وطمأنينة ووئام.
أيها الحضور الكريم :بجانب الصلوات المكتوبة التي يؤديها المسلم خمس مرات في اليوم، فإن الدعاء طريقة أخرى ووسيلة ثانية للتوجه إلى الله وسؤاله عن كل ما نريد تحقيقه..والدعاء هو الصلاة الأوسع انتشارا بين المسلمين لأنهم يرددونه في كل الحالات وفي جميع الأوقات وعلى مختلف الهيئات..في الصحة والمرض ، في الاقامة والسفر،عند التعرض للمحن أو التمتع بالنعم، ندعو لأنفسنا وللغير، للأحياء والأموات..ندعو ونحن موقنون تمام اليقين أن الخالق سيحقق الاجابة.
ندعو الله اليوم أن ينير السبل حولنا حتى نرى بعضنا البعض، ونستمع لبعضنا البعض ، فاحترام معتقد الآخر نور، ومحاورة الآخر نور، وقبول الآخر باختلافه نور.نحن جميعا في هذه البلاد مدعوون إلى تبديد الظلام حولنا لنعيش في سلام .كفانا رمادية الطقس الذي يخيم علينا أكثر شهور السنة .وختاما هذا الدعاء الذي كان يردده رسول السلام محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي يمثل نبراسا لرسالته العالمية:
اللهم اجعل في قلبي نورا
واجعل في لساني نورا
واجعل في سمعي نورا
واجعل في بصري نورا
واجعل خلفي نورا
وأمامي نورا
واجعل من فوقي نورا
ومن تحتي نورا
اللهم وأعظم لي نورا
آمين..آمين .والحمد لله رب العالمين