وأمّا جهتنا: فالحكمُ في ذلك ما جرى به المثل السّائر:" أَزْهَدُ النّاسِ فِي عالِمٍ أهلُه "، وقرأت في الإنجيل أنّ عيسى عليه السّلام قال: ( لا يفقِد النبيُّ حُرمتَه إلاّ في بلده ) ! وقد تيقنّا ذلك بما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وهم أوفر النّاس أحلاما، وأصحّهم عقولا، وأشدّهم تثبّتا ..
أنا الشمـــــــس في جو العلـوم مـنـيرة ,, ولكن عيبــــي أن مطلعـــــي الـغـــرب
ولو أنني من جانب الشـــــــرق طـالـع ,, لجد علي ما ضــــاع من ذكـري النهب
ولي نحـــو أكنـاف العــــــراق صـبـابة ,, ولا غرو أن يستوحـــش الكلف الصب
فإن ينــــزل الرحمـــــن رحلي بـينـهـم ,, فحينئذ يبـــــــدو التـأسف والـكـــــرب
فكم قائل: أغفلته وهــــــو حـاضــــــر ,, وأطلب ما عنه تجــــــيء به الكـتــــب!
هنالك يـــــــدري أن للـبـعـــــد قـصــة ,, وأن كســــــاد العلم آفـتـه الـقــــــــرب!
فيا عجباً من غاب عنهم تشـــــــوقـوا ,, له ودنو المـــــــــرء مـن دارهـم ذنـب
وإن مكاناً ضاق عـنـــــي لـضـيـــــــق ,, على أنه فســــــــــــح مهامـهـه سـهـب
وإن رجالاً ضـيعـونـــــــي لـضـيــــــع ,, وإن زماناً لم أنــــــــــل خصـبـه جـدب
القصيدة للإمام ابن حزم الأندلسي
أشار فيها بطريقة لطيفة إلى أنه على غزارة علمه لم يذع صيته إلا حين رحل للمشرق ,وهكذا حال غالب علماء المغرب قديما وحديثا أمثال الإمام الشاطبي و القرطبي و الآجرومي و ابن عبد البر و القاضي عياض وتقي الدين الهلالي و غيرهم كثير .
وقال رحمه الله في رسالة " فضائل الأندلس " :
" وأمّا جهتنا: فالحكمُ في ذلك ما جرى به المثل السّائر:" أَزْهَدُ النّاسِ فِي عالِمٍ أهلُه "، وقرأت في الإنجيل أنّ عيسى عليه السّلام قال: ( لا يفقِد النبيُّ حُرمتَه إلاّ في بلده ) ! وقد تيقنّا ذلك بما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من قريش، وهم أوفر النّاس أحلاما، وأصحّهم عقولا، وأشدّهم تثبّتا ... حتّى خصّ الله تعالى الأوسَ والخزرج بالفضيلة الّتي أبانهم بها عن جميع النّاس، والله يؤتي فضله من يشاء.
ويقول الإمام الشافعي :
ارحل بنفسك من أرض تضام بها ... ولا تكن من فراق الأهل في حرق
من ذلّ بين أهاليه ببلدته ... فالاغتراب له من أحسن الخلق
وقال أبو الفرج بن الجوزي :
عذيري من فتية بالعراق ... قلوبهم بالجفا قلب
يرون العجيب كلام الغريب ... وقول القريب فلا يعجب
ميازيبهم إن تندت بخير ... إلى غير جيرانهم تقلب
وعذرهم عند توبيخهم ... مغنية الحي ما تطرب
وقال السري الرفاء:
قوض خيامك عن دار ظُلمت بها ... و جانب الذل , إن الذل يجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان مضيعة ... فالمندل الرطب في أوطانه حطب
ومن بديع كلام سهل بن هارون رحمه الله:
" والنّاسُ مُوَكّلُون بتعظيم الغريب، واستِطراف البعيد، وليس لهم في الموجود الرَّاهن، وفيما تحتَ قُدرتهم من الرّأْي والهوى، مِثْلُ الذي لهم في الغريب القليل، وفي النّادر الشاذّ، وكلِّ ما كان في ملْك غيرهم.وعلى ذلك زَهِدَ الجِيرانُ في عالمِهِم، والأصحابُ في الفائدة من صاحبِهم، وعلى هذا السّبيلِ يستَطْرفون القادمَ عليهم ، ويرحَلُون إلى النَّازح عنهم،ويتركون مَن هو أعمُّ نفعاً، وأكثرُ في وجوه العِلم تصرُّفاً،وأخفُّ مَؤُونةً وأكثرُ فائدةً " اهـ.