مفارقات غير عادية (هذه مجموعة من الحالات والظواهر الاجتماعية كان لي حظ ملامستها بالعين المجردة أو معايشتها عن قرب،أثارت في نفسي كثيرا من الأسئلة الفكرية،واستوقفتني بقوة حين حاولت مقارنتها بمخزوني الثقافي والعقدي ،أو بواقع هو ألصق بي من واقع المهجر،أرجو أن تجد فيها أخي القارىء ما يثير فيك نخوة السؤال)
1- حارس.. لاسرائيل
رجل على مشارف السبعين من عمره ، ينزل كل صباح بجاكيتة ساطعة الألوان كالتي ترتديها الشرطة هنا. يركب دراجته ويتجه صوب مركز المدينة أو قل القرية، فحجمها صغير وسكانها قليلون إذا ما قورنت بأمستردام أو روتردام. إلا أنه و بالرغم من ذلك فإنك لا تكاد تجد مكانا توقف فيه سيارتك بالمجان. كل أزقة المدينة الصغيرة تضج بالعدادات الأوتوماتيكية أو بمآرب السيارات تحت وفوق الأرض. وإذا ما خالجك الشعوربأنك أذكى أو أقوى من القانون المعمول به هنا، وتركت سيارتك في زاوية ممنوعة أو دون تعبئة العداد مقابل كل دقيقة وقوف، فإنك ستجد بعد عودتك، مهما قصرزمنها، ورقة صغيرة على مقدمة زجاج السيارة . وستؤدي الغرامة رغم أنفك ودون أن يطلبها منك أحد. لأن الشيك وعليه اسمك وعنوانك والمبلغ المحدد دفعه ، سيصلك بعد أيام عبر البريد وستوقع عليه رغم أنفك وترسله إلى المؤسسة البنكية التي تتعامل معها لتحوله بدورها إلى حساب الدولة ..وإن لم تفعل ذلك داخل الأجل المحدد فسيضاف مبلغ جديد إلى الأول ثم تعطى أجلا جديدا للتسديد. وإن لم تفعل فسيرتفع مبلغ الغرامة مرة أخيرة ليكون بعدها الأداء الفوري أوالمثول أمام القاضي ...وقد تتطورالقضية وتقضي في السجن بعض الوقت.
أعود إلى بطل هذه المفارقة فقد توجه بدراجته إلى ساحة واسعة مهجورة تقع بين بعض الأحياء السكنية المتفرقة هنا وهناك ، محاطة ببعض الأشجار المتناثرة وتصلح لإيواء بضع وعشرين سيارة . حرص الرجل ، من تلقاء نفسه أن يسهر على ترتيب وتنظيم من يفرون بسياراتهم من غلاء العداد الأوتوماتيكي ومن الغرامة ، فيبتعدون بعض المئات من الأمتار عن مركز المدينة ليتركوا سياراتهم بالمجان ، في هذا المكان الهادىء ، وتحت إشراف هذا المايسترو الذي يرشدهم بحركات يديه إلى المكان الفارغ ، بل ويساعدهم على الوقوف والانطلاق بسهولة ... والمقابل ؟.. لا شيء تقريبا... إذا ما قارنت ما كنت ستدفعه لو دخلت بسيارتك إلى مرأب من المرائب الضيقة وكم من الوقت كان سيأخذ منك ذلك و.. ثم هو لا يحدد لك مبلغا معينا، بل يدعك ببشاشته وكلماته المرحة تناوله وأنت تغادر ربما أكثر مما كان سيلتهمه العداد .. وربما اعتبرت ذاك الفعل عملا إنسانيا تدغدغ به مشاعرك .. بل ربما عدت في نفس اليوم مرتين أو ثلاث وساعدك الرجل في الحصول على مكان شاغر..
وأعود مرة أخرى إلى البطل ، داخل بيته، حيث سمح لكاميرا البرنامج بتصوير المكان الذي يمضي فيه حياته الخاصة .. بيت في الطابق الرابع من غرقتين وصالة ومطبخ .. إلى آخر المرافق الضرورية .. أثاث نظيف وآلة بيانو تكدست فوقه وعلى السريرأوراق قطع موسيقية عليها جميعها نجمة داود .. ثم إذا استفزك السؤال وجدت الجدار أمامك ينبئك بما هو أفصح .. شارات إسرائيلية وشعارات وعلم إسرائيل وخريطة هيكل وحمامة سلام وورود هنا وهناك .. ليكتمل السؤال في ذهن المخرج ..
- هل أنت يهودي ؟
- لا ، ولكننا في الكنيسة تعلمنا أنه يجب علينا أن نساعد إخواننا اليهود في مدينة القدس ليحافظوا على المدينة وعلى المقدسات ..
- وكيف تساعدهم وأنت عاطل عن العمل ؟
- ببساطة، لأن أجرة التقاعد التي أتقاضاها تكفيني جيدا لكل احتياجاتي ، فقد استطعت في أربعين سنة من الشغل المتواصل أن أوفر لنفسي تقاعدا جيدا . ثم هذه النقوذ هي خاصة بمعيشتي وليست هي التي اساعدهم بها في المرتبة الأولى..
- إذن لك مورد آخر؟
- هو ما رأيت . ما يجود به أصحاب السيارات كل يوم ، هو ما أضعه في هذا الصندوق( وأشارإلى صندوق صغير مغطى بعلم إسرائيل) حتى آخر الشهر.. ثم أرسله الى مؤسسة خيرية في إسرائيل .
- ما هي حدود المبلغ الذي ترسله كل شهر؟
- حوالي 800 إلى 850 أورو .
- وهل يعلم أصحاب السيارات بهذا العمل الانساني التطوعي ..؟
- منهم من يعلم . يعني هناك من شرحت لهم الغاية من قيامي بحراسة سياراتهم وهناك من يدخل ويخرج ويعطي ما يريد ولا يسال عن شيء .. ربما يظنني في حاجة إلى ذلك المال .. لا يهم .. لقد التقيت بسفير إسرائيل شخصيا في إحدى المناسبات وحدثته بالأمر ، وأعجبته المبادرة وشكرني وشجعني على الاستمرار.
- اليس لك اطفال ؟
اتجه بخطى ثقيلة إلى الجانب الثاني من الغرفة حيث طاولة كبيرة ، عريضة الحجم عليها مجسمات حديدية لسكك الحديد ، قاطرات طويلة واخرى قصيرة ، إشارات مرور حمراء وخضراء وصفراء ، بناية على الرصيف الثاني ...ومسافرون بنتظرون . محطة قطار كاملة، ضخمة، بكل المواصفات ... سرعان ما ضغط على أزرارتحت الطاولة ليبعث فيها الحياة ، فتتحرك القاطرات، كل إلى اتجاه، ويغمرالغرفة صخب حقيقي أخفى بين موجاته مرارة الجواب على السؤال المتقدم.
- لم أفكر قط في الزواج .. لم يكن لدي الوقت لذلك . أحيانا أشعر بمرارة الوحدة ... ليس لي أهل كثيرون.. .. لكن لا بأس ، هأنذا أشغل وقتي بأشياء أجد فيه راحتي . هذا هو المهم .
تعقيب على ما نقلته عيناي إلى بياض هذه الصفحة : ( لا زلت تائها في قراءات متعددة لهذه المفارقة ، أستحضر فيها حالة الشعور الجماعي في وجداننا الاسلامي/العربي/القومي. الشعور فقط.. وليس الفعل .)
بقلم : ذ. محمد وحيد الجابري
بلتهوفن / هولندا : 22-01-2004