بحكم الجوار،كنا نتبادل تحية الصباح أو المساء وإذا سمحت حالة الجو المتقلبة باستمرار، جرنا التقليد هنا أو قل عقدة هولندا الجوية ،إلى استغلال فرصة اللقاء لحديث عابر عن حالة الجو المرتقبة أو الحديث عن سير الأولاد في الدراسة. منذ عشرين سنة ولا حديث عند اللقاء بالآخر الذي يشاركك الحي السكني أو مكان العمل أو حتى المصعد لثوان فقط ، لا حديث إلا عن أحوال الجو وغياب الشمس والبرد القارس .
لم أستسلم لعقدة الجو هذه والمتسببة حسب رأي الكثير من الأطباء في حالات الكآبة والانهيار العصبي التي يعاني منها أهل هذه البلاد، بل وحتى في كثير من حالات الانتحار. ولذلك ترى الكثير منهم يسافرون باستمرار لمناطق الضوء وأماكن الدفء الحقيقي .حاولت اجتناب السقوط في أسباب الهزيمة النفسية هذه، لا سيما وأني أمتلك ولله الحمد والمنة من الجرعات الإيمانية ما يكفي لإضاءة بعض جوانب الحياة القاتمة في هذا المهجر. فنحن المسلمين نمتلك من عناصر القوة الداخلية ما نستطيع به القضاء على كل أسباب القلق والخوف أو الشعور بالوحدة والاغتراب .نعيش بحكم ثقافتنا وتعاليم ديننا في كتل مجتمعة، متداخلة تداخل الليل بالنهار. ورغم ما يحصل أحيانا من شروخ في الجسد الواحد إلا أننا نظل نأكل جميعا ونتحدث جميعا ونخرج جميعا .. نتقاسم الخبز والماء .. نتقاسم الحزن والفرح .. نتقاسم الدرهم والقميص الواحد .. نحن هكذا..جسد كبير بأعضاء متعددة. أما هنا فالأمر مختلف تماما ،بمجرد ما يبلغ الولد ،ذكرا كان أم أنثى ،سن السادسة عشر إلا ويصبح له " الحق" في الاستقلال بحياته ،أو إن صح التعبير يصبح مجبرا عل مغادرة عش الأبوة والأمومة ل"الاعتماد على نفسه".فالدولة توفر له منحة دراسية إن كان سيتابع دراسته وتكون قيمتها أعلى منها إذا ظل يقطن مع والديه .والدولة توفر له قبل ذلك وبعده سوقا كبيرا للعمل أو للتكوين المهني بأجرة تغنيه عن الارتباط بالوالدين .
نتيجة هذه الثقافة المحزنة، يفقد الآباء في وقت مبكر من يرافقهم في ضجيج الحياة ، هذا إن كانوا قد أخذوا مبادرة المغامرة ـ حسب قولهم ـ لإنجاب طفل أو طفلين.البديل قبل وبعد الإنجاب هو ضم عنصر آخر إلى هيكل الأسرة.عنصر يؤمن جانبه ويطمئن إلى عدم مغادرته العش الأسري يوما ما. وبما أن هذا لا يمكن تأمينه من جانب البشر فإن الإنسان الغربي عادة ما يتجه إلى الحيوان يطلب عنده الصحبة ـ الوفاء ـ الطاعة ـ وربما مشاعر وأهداف أخرى تتغير يتغير الحال وتقدم العمر.أمة الكلاب تحتل في هذه المفارقة العجيبة المرتبة الأولى وتأتي بعدها أمة القطط فالعصافير فالفئران فما لا يخطر على بال أنه حيوان أليف.
جاري الهولندي في الستينات.وزوجته في مثل سنه ،يعيشان و"ميشا" في بيت كالذي اسكنه من حيث عدد الغرف والحديقة الخلفية حيث يقضيان جل الوقت كلما سمحت حالة الجو بذلك. حدثني كثيرا عن بنتيه المتزوجتين وأحفاده الثلاثة .وعن زيارة إحدى ابنتيه دون الأخرى وعن أسباب الهجر أو الابتعاد في الأفكارـ كما يسميها ـ ثم حدثني عن " ميشا " ، الكلبة الصغيرة ، المنقطة بالأبيض والأسود ،حدثني عن تاريخ ولادتها وصنفها وفصيلتها وكيف كان محظوظا في الحصول عليها.
بل أطنب في الحديث عن مشاعرها وكيف تجلس عند رجليه تسمع لنغمات البيانو التي يرددها كل صباح،وكيف كانت تغار جدا من زيارة كلب ابنته حينما كانت تأتي به في مناسبة من المناسبات أو تكون على سفر فتتركه ضيقا عندهم .كانت "ميشا " لا تكف عن النباح ،بل تمرض إذا طالت مدة ضيافة الكلب الزائر.وحين كان يريد الخروج بهما معا إلى الخلاء كانت تغضب وتتعب سيدها فيترك لزوجته الإهتمام بالضيف ويتفرغ هو لابنته ـ عفوا ـ لكلبته .
الحديث مع جاري الهولندي اخذ أبعادا كثيرة ، فكرية وسياسية، دينية واجتماعية، لكنها كانت في غالبيتها سطحية وقصيرة وذلك لعدم توفر فرص أفضل وأوسع ، ولانشغالي بالعمل وشؤون البيت والأولاد.لكن مع ذلك كنا نتبادل التحية بسرعة أو كلمات قليلة كل يومين أو ثلاثة إذا التقينا صباحا أو مساء أو عند فتح نافذة من النوافذ ويكون أحدنا صدفة في حديقة بيته الخلفية.إلى أن كان يوم ...
افتقدت أول ما افتقدت أنغام البيانو يومي السبت والأحد صباحا حيت كانت تخترق هدوء المنطقة وزجاج النوافذ لتوقظني من النوم.
وافتقدت ثانيا اللقاء بجاري ،حيث لم يعد يظهر ،لا في الحديقة ولا عبر النافذة ،حتى ظننت أنهما في سفر.ثم افتقدت ثالثا، ودون أن أشعر بذلك، صوت " ميشا" الذي أصبح جزءا لا يتجزأ من حركة الأصوات في بيت جاري الهولندي.
صباح الأحد ،وأنا منهمك ببعض شجيرات الحديقة الخلفية ،أهذبها وأغير لبعضها التربة ،إذ أطل علي جاري من نافذة غرفة نومه ،شاحب الوجه، مبعثر الشعر، منهارا كالخارج من هزيمة أو فاجعة. رفعت إليه رأسي أحييه كالعادة ،فإذا به يضع يديه على حافة النافذة ويتأوه بهذه الكلمات:
ـ "ماتت ميشا.. ماتت .. "
ـ أوه .. متى حصل ذلك؟
ـ منذ أسبوع ..يوم السبت الماضي ..أصابها مغص شديد طوال الليل ..ولما حملناها إلى المستشفى وبعد عملية صغيرة ـ واختنق صوته ـ غادرتنا .. إلى الأبد ..
احترت بم أجيبه ،أعزيه في مصابه؟ الرجل متأثر أيما تأثر ومنهار تماما .,كيف أرفع من معنوياته؟
ـ أعتقد أن الحل بسيط ،عليك فقط أن تبحث لك عن كلبة أخرى تشبهها. أعني من نفس الفصيلة ،لتحل محلها.
وكأنه أصيب بصعقة كهربائية ، انتفض صائحا:
ـ ميشا ليس بكلبة ..ميشا شيء أخر ..ميشا كانت بمثابة ابنتي .. لن يحل احد محل ميشا ..لا يمكن .
ـ الزمن فقط كفيل بمحو آثار الألفة ..
ـ ولا الزمن.
مرت أكثر من شهرين قبل أن تخترق زجاج النوافذ الخلفية إحدى صباحات الأحد نغمات البيانو لتوقظني من نومي على إحدى المفارقات العجيبة. علمت أن الرجل قد عاد إلى حالته الطبيعية أو عادت إليه. وعلمت منه بعد ذلك أنه تلقى مساعدات طبية للخروج من تلك الحالة النفسية معافى.
حمدت الله عز وجل على ما أغدق علينا من نعم لا نقدرها أحيانا حق قدرها وقررت أن يكون موضوع خطبة الجمعة لهذا الأسبوع حول: " أمة الكلاب".
ذ. وحيد محمد الجابري
هولندا ـ أكتوبر 2007