فبينما الناس في غمرتهم ساهون،إذ ذاع في الأخبارظهوروباء في إحدى المدن الصناعية في بلاد بعيدة،يُجهل مصدره وتُخشى عواقبه حيث بدأ باختراق الأجساد وحصد الأرواح.وتجندت الأقلام والأفلام لنقل صور المرضى والموتى،واستاثرت تحليلات وتعليقات الأطباء والسياسيين ، وعلماء الاقتصاد والاجتماع بباقي أخبارالعالم، فقد انتشرالمرض المجهول في ظرف وجيزإلى أقرب الدول من ولادته ثم إلى أبعدها ليتمكن من جل بلدان العالم وليصبح الجائحة العالمية التي قلبت موازين القوى ومفاهيم السيطرة ..
الجمعة ،ذلك اليوم الفريد في اسمه،العظيم في شأنه ،الخاص في أجوائه ،لا يشبهه من أيام الأسبوع يوم ولا يمكن أن يحتل مكانه آخر.وهوقبل ذلك وبعده من نعم الله العظيمة التي اختص الله بها الأمة المحمدية من بين الأمم لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه. جعله الله عيدًا للمسلمين، كما جعل الأحد للنصارى والسبت لليهود، وهو أفضل الأيام عند الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة؛ فيه خلق آدم،وفيه أدخل الجنة،وفيه أخرج منها،ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة)(أخرجه مسلم عن أبي هريرة) . أوجب الله في هذا اليوم فريضة الجمعة فقال:” يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ لِلصَّلَوٰةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ” [الجمعة:9].ولم يبح لأحد التخلف عنها دون عذر، حتى لا يفوت المسلم من هذا الاجتماع الأسبوعي ما فيه من تعليم وتوجيه وموعظة ،بل هو تجديد للبيعة وإظهار لوحدة المسلمين وإحياء لعاطفة الأخوة بينهم.قال صلى الله عليه وسلم: (لينتهين قوم عن ودعِهم الجمُعات أو ليختمن الله على قلوبهم،ثم ليكونن من الغافلين) وقال أيضًا: "من ترك ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه ".ولذلك جاء الحث على الاستعداد لهذا اليوم واغتنام ما فيه من فضل. يقول صلى الله عليه وسلم :" من غسّل يوم الجمعة واغتسل وبكّروابتكر ومشى ولم يركب ودنا من الإمام ولم يلغ واستمع كان له بكل خطوة يخطوها أجرعمل سنة؛ صيامها وقيامها "وفي حديث آخرقال:" إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأول فالأول،ومثل الهجر–أي المبكر إلى الجمعة –كمثل الذي يهدي بدنة ثم كالذي يهدي بقرة ثم كبشًا ثم دجاجة ثم بيضة، فإذا خرج الإمام طووا صحفهم وجاءوا يستمعون الذكر" وفي هذا اليوم المبارك ساعة مباركة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله شيئًا إلا أعطاه ذلك، كما في الصحيح من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ذكر يوم الجمعة فقال:" فِيه سَاعَةٌ لا يُوَافِقها عَبْدٌ مُسلِمٌ، وَهُو قَائِمٌ يُصَلِّي يسأَلُ اللَّه شَيْئًا، إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاه وَأَشَارَ بِيدِهِ يُقَلِّلُهَا " ( متفقٌ عليه).
ينضاف إلى هذا الجانب التعبدي الروحي ويلتصق به بحميمية عارمة طابع اجتماعي عرفي اندرج في يوم الجمعة واكتسح ساعاتها جميعا بل تظهر بعض آثارالاحتفال باليوم العظيم منذ غروب شمس يوم الخميس. أتحدث هنا عن بلدي المغرب. ورغم تعدد الأعراف في بعض المناطق إلا أنها تلتقي في الكثيرمن محطات التوزيع الزمني لهذا اليوم وما يتخلله من لحظات خاصة. يبدأ ذلك يوم الخميس ليلا حيث ينتشرفي الأحياء باعة الخضرالخاصة بتحضير وجبة الكسكس الشهيرة، ويغتنم الجزارالمناسبة ليتخلص من بقايا الشحوم الملتصقة باللحم أوالعظام لنكهتها الخاصة في هذه الوجبة.ثم يتم طبعا شراء الكسكس الجاهز(كان يحضر سابقا بأيدي أمهاتنا صباح الجمعة وبطريقة تقليدية فذة افتقدنا متعة رؤيتها)،الفواكه (إن كان في المقدور شراؤها) سيأتي بها الأب في الغذ بعد صلاة الجمعة.في هذه الليلة أيضا تكون الحمامات مكتظة على غير عادتها حيث يقبل عمال البناء خاصة واصحاب الحرف عموما وكثيرممن يستعد مسبقا بالغسل السني. فينتعش مالك الحمام والعاملون به وصندوق وكالة الماء والكهرباء.
منذ الساعات الأولى من صباح اليوم الفضيل يُلتفت إلى ما كان مُغيبا عن الاهتمام به ( عالم الأموات). فيتجه العديد من الناس لزيارة القبور،جماعات وأفرادا،كل حسب نيته وهدفه من تلك الزيارة . وتختلط هناك الأصوات والأجساد وغرائب الأفعال والأقوال ،وتنتعش هناك بعض المهن من بائع الخبزوالتين لبائع الجبص والطين لبائع الآيات والدعوات ،وتغتص الممرات الضيقة بين القبوربأطفال في عمرالزهور يتكففون الزواربأدلاء الماء مقابل صدقة على الأموات . ويزيد المناخ العام تأثرا وعطفا وشفقة اصطفاف العشرات من المتسولين على جانبي الطريق،رافعي الأيدي والأصوات في شكل فظيع.
وتحل ساعة الفصل.. من سيصلي الجمعة ؟ ومن سيظل جالسا في المقهى بقرب المسجد حتى يحين وقت الغذاء ..ومن سيغلبه طول السهر فلا يستفيق إلا بعد الظهر، ومن ستحبسه ألوان الشهوات في سجنها فلا يستطيع الفكاك ولو لساعة.. ومن سيحبسه المرض .ومن .. ومن,,وكل هؤلاء لا يؤثر غيابهم على رونق الجمعة ولا يمس من كثافة المقبلين على المساجد فهي لا تسع المصلين فيصطفون خارجها ..فعموم الأمة يتعبدون ربهم بهذه الفريضة الأسبوعية رجاء في الثواب وخوفا من العقاب.ولا يطلع على القلوب إلا الذي يعلم السر
وأخفى ..سبحانه.
هذا هو المنحى العام والشعورالسائد بين أفراد هذا الشعب المسلم ،فحتى من لا يلتزم بالصلوات اليومية تجده يحرص على صلاة الجمعة حرصه على صيام رمضان وصلاة التراويح .والذي نالت من إرادته الأهواء وشرد به الهوى إن كلّمتَه في ذلك طلب منك الدعاء له بالهداية.فإذا قضيت الصلاة انتشرالناس إلى بيوتهم. المحلات التجارية مغلقة، بائعوا الفواكه الذين كانوا بابواب المساجد انصرفوا بعد طول ضوضاء وصياح. المتسولون أيضا تفرقوا يعدّون ما حصلوا عليه من نقوذ لاستبدالها مساء بأخرى ورقية.. تفرغ الشوارع والطرقات إلا من روائح الكسكس الشهية تعبق الأجواء.احتفال حقيقي بيوم فضيل اختاره الله سبحانه لهذه الأمة. وبعد حفلة الكسكس والشاي والقيلولة تعرف بعض الأسرالعتيقة برنامجا عتيقا حافظ على تماسك المجتمع أفرادا وأسرا وجماعات (الزيارات العائلية)، نفتقده اليوم في زمن الانغلاق على الذات والانشغال المميت بكل ما يبعدنا عن الآخر بدعوى الحفاظ على خصوصيته وعدم الخوض في شؤونه .ولن أتوسع أكثر في الكمّ الهائل من المظاهر التعبدية والاجتماعية والعرفية التي تزين ساعات يوم الجمعة وتجعله أبهى وأرقى في الشعورالعام وما يخلفه ذلك كله في النفوس من راحة وطمأنينة .
تصور معي الآن أن آمرا ما ،ذا قوة وسلطان، قضى بإلغاء المظاهرالخاصة بهذا اليوم ،صغيرها وكبيرها،المقدس منها والمشاع ،المميزوالعادي!! ألا يعد ذاك إلغاء لليوم بأكمله، ألا يستفزذلك من ولدوا وآباءهم وأجدادهم الأقدمون ينتظرون حلول ذلك اليوم كل أسبوع؟ شيء لا يتصورولا يمكن أن يقبل وقوعه..وقع. والذي قضى به ـ حسب عقيدتناـ الذي لا راد لقضائه سبحانه.المتصرف في ملكه كيف يشاء والمبتلي عباده بما يشاء. " ونبلوكم بالشروالخيرفتنة وإلينا ترجعون "(الأنبياء 35). فبينما الناس في غمرتهم ساهون،إذ ذاع في الأخبارظهوروباء في إحدى المدن الصناعية في بلاد بعيدة ،يُجهل مصدره وتُخشى عواقبه حيث بدأ باختراق الأجساد وحصد الأرواح .وتجندت الأقلام والأفلام لنقل صورالمرضى والموتى، واستاثرت تحليلات وتعليقات الأطباء والسياسيين وعلماء الاقتصاد والاجتماع بباقي أخبارالعالم فقد انتشرالمرض المجهول في ظرف وجيزإلى أقرب الدول من ولادته ثم إلى أبعدها ليتمكن من جل بلدان العالم وليصبح الجائحة العالمية التي قلبت موازين القوى ومفاهيم السيطرة فالكل سواء في الحيرة والضعف وقلة الحيلة أمام عدو لا صورة له ولا صوت،يخنق الأنفاس ويقبض الأرواح ،وتسابقت الدول الغنية والفقيرة على السواء إلى التصدي لسرعة التفشي بإجراءات احترازية لمحاولة منع انتقال العدوى، فالحالات الحرجة تتكاثروالموتى بالآلاف ولا علاج بعدُ ولا لقاح والباب مفتوح لعدومجهول" وما يعلم جنود ربك إلا هو".
لم يكن يخطر ببال أحد أن المساجد ـ موضوع هذه الخاطرة ـ ستغلق يوما في وجه المصلين وستعطل صلاة الجمعة والجماعات لشهور،فقد مرشهرالصيام يتيما من صلاة التراويح في المساجد، بل أشد من ذلك على النفوس توقف الطواف حول البيت العتيق وألغيت فريضة الحج بالنسبة للوافدين.أغلقت الحدود بين الدول وتوقفت وسائل السفرالبرية والجوية والبحرية ..وأغلقت المحلات والمدارس والأزقة والمدن. أغلقت الأبواب جميعها ولم يعد للمتقين وغيرهم سوى باب السماء المفتوح باستمرار." ففروا إلى الله .."
اتخذت الدول جميعها إجراءات خاصة بالحالة الوبائية داخل حدودها وتنوعت تلك الإجراءات بين الشدة والتخفيف حسب سلم الإصابات وعدد الوفيات وبدأت الحياة تعود تدريجيا لبعض القطاعات حتى الترفيهية منها (الرياضية خاصة لمصادرها المالية) و..ظل يوم الجمعة غائبا عن سلم الأوليات. يوم الجمعة بزخمه الايماني وثقله الاجتماعي وفضله التعبدي لم يكن حاضرا في أجندات الوزارات المعنية يالشأن الديني في كثير من بلاد المسلمين. لم تجتهد الحكومات في إبداع طرائق في الإبقاء على صلاة الجمعة اجتهادها في قطاعات أخرى بل دفنتها في مقولات فضفاضة خارج السياق تبرربها القوانين الاجرائية الممتدة إلى أجل غيرمحدود من قبيل "الحفاظ على أرواح المواطنين" و" لا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ".نعم .. لكن للحفاظ على الدين أيضا مكانة عظمى ومقصد أكيد في استقرارالأمن الروحي للناس والراحة النفسية للمتعبين. فرجاء، أعيدوا لنا رونق وبهاء وزينة يوم الجمعة... وزينته صلاة الجمعة.
ذ.محمد الجابري
هولندا ـ الجمعة 7 ـصفرـ 1442 / 25 شتنبر 2020