إن الجهاز المناعي للأمة هم أهل الله والصالحون من العلماء، فإذا تهاونت هذه الفئة عن رسالتها وفرّطت في البلاغ والإرشاد، ضعف الجهازوتسرّب الضعف إلى سائرالجسد وسيطر حينذاك الفسقة والمتملقون ممن نراهم اليوم رُكّعا سُجّدا تحت أقدام الظلمة من الأمراء والحكام، يبررون لهم حماقاتهم ومظالمهم ويزينون مساوئهم بل يوظفون ويؤولون للحاكم الآيات القرآنية التي خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد أفعال الحاكم وتمريرها بإعطائها الصبغة الشرعية.
في معجم المعاني الجامع، فعل كمَّمَ يكمِّم ، تَكْمِيمًا له معنيين كبيرين : الاخراج والتغطية .فمن الأول كَمَّمَتِ النَّخْلَةُ اي أَخْرَجَتْ كِمَامَهَا، ومن الثاني كَمَّمَ النَّخْلَةَ ،غَطَّاهَا لِتُرْطِبَ .وكَمَّم الشيءَ: ستره أَو سَدَّه. والكِمَامَةُ ما يُجعَلُ على أَنف الحمارأَوالبعيرلئلاَّ يؤذيَه الذُّبابُ والجمع كمائِمُ.وحَيَوَانٌ مُكَمَّمٌ، أي وُضِعَتِ الكِمامَةُ على خَطْمِهِ لِمَنْعِهِ مِنَ العَضِّ.وكمَّم الأفواهَ، منع الناسَ من حرِّيَّة الكلام .وتكمَّم الرَّجلُ: وضع الكِمامة على أنفه وفمه لتقيه الغازات السامة ونحوها.
وفي معجم " كورونا " ، أخذ الاسم (الكمامة) أبعادا لغوية ونفسية واجتماعية أعمق وأوسع مما اجتهد فيه عباقرة اللغة. فمن مستهزئ بارتدائها لمستهتر في طريقة وضعها لمتفنّن في خياطتها وشكل رسومها وألوانها . هذه الحكومة تؤكد على فعاليتها وتلك تعلن عن مخاطراستخدامها المطوّل على الصحة ،وأخرى ترى عدم حمايتها لنقل العدوى ..وهكذا ..اختلطت الأفهام والقراءات والحسابات في تحديد وظيفة تلك القطعة الصغيرة من القماش ( طبية وعادية ) هل لها حقا ذلك المفعول السحري للوقاية مما يفرزه البشر من أنوفهم وأفواههم؟
وقد عرف تاريخ الطوارق ( قبائل استوطنت الصحراء الكبرى وشمال مالي و الجزائر، والنيجروليبيا ) ، شيئا شبيها بما أجبراليوم البشر بوضعه على أفواههم وهواللثام الذي كان عندهم مدعا ة للفخر والرجولة، وإحدى الوسائل التي تقيهم من رياح الصحراء العاتية .ويحكى أن قدماء الطوارق كانوا يضعون اللثام بصفة رمزية لحماية مداخل الجسم من تسرب الأرواح الشريرة إليها، كما يعتقدون أنّ الفم بمثابة عورة فإذا لم يتم حفظه ستخرج منه كلمة السوء.
واليوم ، بعيدا عن التاريخ وعن الرجولة والمكانة الاجتماعية..وتحت وطأة الجائحة العالمية اصبح لتلك القطعة البائسة من الثوب رمزية الموت والحياة أوما بينهما ،فلا حديث ولا نقاش إلا عن الكمامة وآثارها ومخلفاتها . ضجّت وسائل الإعلام وفضاءات اللغو بالأخباروالصور،من مؤيّد إلى مندّد، وتحدث الخبراء والعقلاء والدهماء والحمقى،كل من زاوية اختصاصه. وتنافست الفعاليات المدنية في الدعوة إلى مظاهرات ضد كل ما يخنق التنفس الطبيعي ويقيد السيرالعادي للحياة. ذلك أن بعض الحكومات سنّت قوانين جديدة بإنزال عقوبات حبسية وغرامات مالية في حق كل من ثبت إخلاله بإلزامية وضع الكمامة الواقية، وتهديده للأمن الصحي والنظام العام .دول أخرى نهجت سياسات أخرى في اتقاء نقل العدوى ولم تكمم افواه مواطنيها كالسويد وهولندا والنرويج والدانمارك ..وبين هذا وذاك ،لا زال الوباء منتشرا ،يهدد بالفناء الكثيرمن بني البشر ويلقي الرعب في قلوب الحكام والمحكومين ،الأغنياء والفقراء،الأصحاء والمرضى ، البسطاء والمتعجرفين..الجميع يحاول الاختباء وراء تلك الخرقة الواهية من الثوب الواهن . اختفت فجأة تعابيرالصادقين والمنافقين على السواء ، فلم تعد تطلع على الضحكة الصفراء ولا الخضراء ولم تعد تتأكد من مخارج حروف الحكام والسياسيين والفقهاء ...اختفى بريق الفرحة وغربت ارتعاشة الشفاه بالكلام الحزين.. ضاعت تعابير الوجوه .. ولو كشف لك المخبوء لعلمت بقليل من الايمان أن الكمامة جرس من أجراس القارعة ..فأصغ السمع لما بداخلك قبل ان تكمم الأفواه حقيقة لا مجازا.
وبعيدا عن أخبارالوباء وتفشيه، وعدد المصابين والموتى، حاولت قراءة ظاهرة الكمامة ( رغم أني لم اضطرفي هذا البلد لوضعها) من زاوية ربما لم ينتبه اليها الكثيرممن أجبروا على ارتدائها منذ ما يقارب سبعة اشهر. !!عجبا ، ألم تحرك فيك تلك القطعة الميتذلة من الثوب، طوال هذه المدة ،أسئلة أكبرمن نقل العدوى وحماية الآخرين ، والالتزام بإجرات الدولة ؟ ألم تستفزك وانت تستر بها تلك القطعة من اللحم الرطبة وراء الأسنان ، فتسائل نفسك ماذا فعلت بلسانك حتى نأى بنفسه عن وضوح الكلام وتلعثم في البوح بما يخفيه ؟ هلاّ قرأت بين الخيوط التي نسجت تلك الخرقة فنقضْتَ غزلها خيطا خيطا لتطلع على حكمة خالقك من ابتلائك بمظهرك الجديد ؟ لماذا يغيب عن عقول الكثير منا القراءات الرمزية وراء الكثير مما يقع فينا،لنا،اوحولنا ؟ لماذا يتم عنوة تغييب الجانب العقدي ـ الايماني عند النظرلمثل هذه الظواهر ؟؟
قد تأتي الابتلاءات تحذيرًا للعباد من الوقوع في المعاصي والذنوب؛ ومن رحمة الله تعالى بهم أنه يُنبّههم ويحذّرهم حتى يقلعوا عن المخالفات التي يقترفونها في حق أنفسهم وفي حق الآخرين لأن ضررالمعصية يعود على الإنسان في نفسه وفي مجتمعه. ويستوي في هذا التحذير الناس جميعا، المؤمن وغير المؤمن؛ فليس الابتلاء انتقامًا وإنّما هوتحذير وتنبيه لما يكتسبه الإنسان من عمل سيئ عسى أن يرجع عنه. قال تعالى: ﴿ وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوعَن كَثِيرٍ ﴾{الشورى: 30}. وذكرالطبري في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾{الإسراء: 59}عن قتادة قوله: (وإن الله يُخوّف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت –أصابها الزلزال – على عهد ابن مسعود،فقال: يا أيّها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه. ونقل عن الحسن ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ قال: الموت الذريع). فتدبّر.. أليست ألسنتنا تفيض باللغو بالليل والنهار؟ أليس يخوض الجميع في أعراض الجميع ؟ افتراءا وطعنا في الأنساب ونبزا بالألقاب ؟ انظر حولك وأبعد منك وقد تطورت أساليب السبّ والانتقاص وتقدمت بالناس وسائل التواصل "الاجتماعي" البغيض فهاموا في فضاءات الخزي حتى غرقت بهم القوارب ،ففشا الطلاق والانتحاروالقتل ،وفشت الفاحشة فاعلنوا بها ففشت فيهم الأوجاع والأمراض..فماذا تغني تلك الخرقة وقد تمكن فيروس المعاصي من القلوب والعقول. وهل انتبه الناس إلى رمزية تكميم الأفواه والأنوف أم لا زالوا في غيهم يعمهون ؟ يستدرجهم في ذلك كله عزوف الكثير من العلماء والدعاة عن حمل أمانة التذكيريأيام الله ووعظ العامة على الأقل بأسباب االنجاة ووسائل العلاج حين تلذعهم القوارع وتنزل بساحاتهم... فساء صباح المنذرين ..نسأل الله العافية.
إن الجهاز المناعي للأمة هم أهل الله والصالحون من العلماء ،فإذا تهاونت هذه الفئة عن رسالتها وفرّطت في البلاغ والإرشاد ،ضعف الجهازوتسرّب الضعف إلى سائرالجسد وسيطر حينذاك الفسقة والمتملقون ممن نراهم اليوم رُكّعا سُجّدا تحت أقدام الظلمة من الأمراء والحكام ، يبررون لهم حماقاتهم ومظالمهم ويزينون مساوئهم بل يوظفون ويؤولون للحاكم الآيات القرآنية التي خوطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأييد أفعال الحاكم وتمريرها بإعطائها الصبغة الشرعية.بل منهم من تعدى ذلك إلى الاصطفاف إلى جانب اعداء الأمة من يهود وصليبيين يبرّرطغيانهم وتسلطهم على خيرات الأمة ومقدساتها، في حين كان بالأمس يذرف الدموع وهو يصلي بالناس في خير مكان وافضل زمان ..من تنافق ومن توافق ..؟ !!أفسدت عليك دينك ودنياك وربما آخرتك..كم من لجام يكفيك لتخفي مساوئ لسانك ام تجاهلت: " من كتم علماً يعلمُه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار".؟ ...شرالناس العلماء إذا فسدوا ، فكيف يصيرحال العامة إذا فسد ملح البلد ؟ كان يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله (الزاهد الواعظ تُوفي سنة 258هـ) يقول لعلماء الدنيا: " يا أصحاب العلم ، قصوركم قيصرية، وبيوتكم كسروية، وأثوابكم ظاهرية ،وأخفافكم جالوتية، ومراكبكم قارونية، وأوانيكم فرعونية، ومآثمكم جاهلية، ومذاهبكم شيطانية ، فأين الشريعة المحمدية ! " وكان ابن عباس يأخُذ بلسانه ويقول: ويحك، قُلْ خيرًا تغنم،أواسكُتْ عن سوء تَسلَم،وإلاَّ فاعلَم أنَّك ستندم،وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو،ما على الأرض من شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وتقولُ عائشةُ رضِيَ اللهُ عنها: "قلتُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: حَسبُكَ من صفِيَّة كذا وكذا ،" تعني قَصِيرةً"، "وصفِيَّةُ هيَ بنتُ حُيَيٍّ،زَوجُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم فقالَ عليه الصلاة والسلام : "لقدْ قُلتِ كلِمةً لوْ مُزِجتْ بماءِ البَحرِلمزَجَتْه"،أي: إنَّ ذِكرَكِ صَفِيَّةَ بتلكِ الكلِمةِ لو خُلِطَتْ بماءِ البحرِلغيَّرتْ لونَه وريحه ..فتدبّر...
هل نعتبرولو قليلا من رمزية تلك الخرقة التي غطت روائح أفواهنا وثقوب انوفنا ؟ هل سنستحضرفي هذا الظرف العصيب أدب الاسلام الذي أوصى بحسن الخلق وحفظ الأعراض والذبّ عن كرامة الستضعفين والالتزام بقيم الخير والصلاح ، فقد فشا بيننا الحسد والكراهية وتمكنت منا الحالقة ؟ وانتهكنا الحرمات بالقول والفعل حتى تغيرت ألوان التربة والبحار من حولنا ،ولم ننتبه ، وتغيرت ألوان العلاقات بين الأسر والأخلاء ،ولم نعتبر،وحلّ بنا الهرْج والمرَج، ولم ننته ،(الهرج القتل والمرج الفتنة والاضطراب) .. فالبدارالبدار بنزع غشاوة الجهل والعصيان لإبصارالطريق قبل أن تحلّ القارعة ... فقد رنّتْ أجراسها.
ذ.محمد الجابري
هولندا ـ 27 ـ صفرـ 1442 / 15 أكتوبر 2020