{كلمة رئيس جمعية الأندلس الأستاذ محمد وحيد الجابري في المؤتمر الثاني للجمعية بتاريخ 9 ـ12ـ2007 .دبيلت ـ هولندا }
بسم الله الرحمن الرحيم ،
اختيار موضوع هذا اللقاء لم يأت من فراغ .فمنذ سنوات وأنا أعاني من غياب مفهوم التطوع على المستوى العملي، لا سيما داخل مجموعة الأقليات والتي كان عليها أن تكون هي السباقة إلى احتضانه والدعوة إليه.المعاناة الثانية كانت في غياب المناسبات لإمكانية طرح الموضوع على الأقل داخل المجموعات المغتربة.واليوم ،بفضل الله وقوة إرادة هؤلاء الشباب الذين يمدونني بالأمل الكبير في المستقبل ،وبعد المؤتمر الأول لجمعيتنا ـ الأندلس ـ أجد الفرصة مواتية لتحقيق رغبتي القديمة وطرح الموضوع الذي أرقني لسنوات .
كانت ردود الفعل الأولى عندما طرحت الفكرة على الشباب ،أن الموضوع ضيق وصغير وربما لا يصلح كمحور لهذا المؤتمر ،ولكن، وبعد النقاش والتحليل تبين لنا جميعا أن الموضوع كبير وشائك في معانيه الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والإنسانية ،لذلك فما سنحاول اليوم طرحه أو نقاشه إنما هو محاولة لفهم الموضوع ودعوة أولى إلى احتضانه ودعمه.
-2 العمل التطوعي ركيزة أساسية في بناء المجتمع وفي نشر التماسك الاجتماعي بين المواطنين ، فهو ممارسة إنسانية ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بكل معاني الخير والعمل الصالح عند كل المجموعات البشرية منذ الأزل .ولكنه يختلف في حجمه وشكله واتجاهاته ودوافعه من مجتمع إلى آخر، ومن فترة زمنية إلى أخرى، فمن حيث الحجم فإنه يقل في فترات الاستقرار والهدوء، ويزيد في أوقات الكوارث والنكبات والحروب، ومن حيث الشكل فقد يكون جهداً يدوياً وعضلياً أو مهنياً أو تبرعاً بالمال أو غير ذلك، ومن حيث الاتجاه فقد يكون تلقائياً أو موجهاً من قبل الدولة في أنشطة اجتماعية أو تعليمية أو تنموية، ومن حيث دوافعه فقد تكون دوافع نفسية أو اجتماعية أو سياسية. ويمكن أن نميز بين دافعين للعمل التطوعي؛ الدافع الأول: السلوك التطوعي: وهو مجموعة التصرفات التي يمارسها الفرد وتنطبق عليها شروط العمل التطوعي ولكنها تأتي استجابة لظرف طارئ، أو لموقف إنساني أو أخلاقي محدد، مثال ذلك أن يندفع المرء لإنقاذ غريق يشرف على الهلاك، أو إسعاف جريح بحالة خطر إثر حادث ألمّ به - وهذا عمل نبيل لا يقوم به للأسف إلا القلة اليوم. أما الدافع الثاني فيتمثل بالفعل التطوعي الذي لا يأتي استجابة لظرف طارئ بل يأتي نتيجة تدبر وتفكر مثاله الإيمان بفكرة تنظيم الأسرة وحقوق الأطفال بأسرة مستقرة وآمنة؛ فهذا الشخص يتطوع للحديث عن فكرته في كل مجال وكل جلسة ولا ينتظر إعلان محاضرة ليقول رأيه بذلك، ويطبق ذلك على عائلته ومحيطه.
-3 ما يجعل للعمل التطوعي تأثيرا قوياً في المجتمع أنه يقوم على صفتين أساسيتين :1- قيامه على أساس المردود المعنوي أو الاجتماعي المتوقع منه، مع نفي أي مردود مادي يمكن أن يعود على الفاعل. 2- ارتباط قيمة العمل بغاياته المعنوية والإنسانية.لهذا السبب يلاحظ أن وتيرة العمل التطوعي لا تتراجع مع انخفاض المردود المادي له، إنما بتراجع القيم والحوافز التي تكمن وراءه، وهي القيم والحوافز الدينية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية. ويمكن التمييز بين شكلين أساسيين من أشكال العمل التطوعي:1- العمل التطوعي الفردي: وهو عمل أو سلوك اجتماعي يمارسه الفرد من تلقاء نفسه وبرغبة منه ولا يبغي منه أي مردود مادي، ويقوم على اعتبارات أخلاقية أو اجتماعية أو إنسانية أو دينية. في مجال محو الأمية - مثلاً - قد يقوم فرد بتعليم مجموعة من الأفراد القراءة والكتابة ممن يعرفهم، أو يتبرع بالمال لجمعية تعنى بتعليم الأميين. 2- العمل التطوعي المؤسسي: وهو أكثر تقدماً من العمل التطوعي الفردي وأكثر تنظيماً وأوسع تأثيراً في المجتمع، فقد لا يستطيع الفرد أن يقدم عملاً محدداً ، ولكنه يتبرع بالمال؛ فتستطيع المؤسسات الاجتماعية المختلفة أن تجعل من الجهود المبعثرة متآزرة ذات أثر كبير وفعال إذا ما اجتمعت وتم التنسيق بينها. وكمثال على العمل التطوعي من خلال المؤسسات نأخذ كنموذج برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين .ففي منظور هذه المؤسسة العالمية ، العمل التطوعى هوعمل غير ربحى، لا يقدم نظير أجر معلوم، وهو عمل غير وظيفى/مهنى، يقوم به الأفراد من أجل مساعدة وتنمية مستوى معيشة الآخرين، من جيرانهم أو المجتمعات البشرية بصفة مطلقة.
-4 هذا المفهوم انحصر وحتى منتصف الثمانينات على ذلك العمل الفردى أو الجماعى غبرالمنظم عند الكوارث ، وتطور تلقائياً إلى تلك المنظمات التى تقدم خدمات إجتماعية للمجموعات الضعيفة ، مثل الأطفال المشردين أو غير الشرعيين والمعوقين مثل المكفوفين والصم والبكم. وفي التسعينات بدأ توسع واضح في مفهوم العمل الطوعي إذ شمل مفاهيم وأبعاد سياسية، أهمها مفهوم المشاركة السياسية. يعمل فى برنامج الأمم المتحدة للمتطوعين أكثر من 4.000 رجل وامرأة سنوياً،ويتميزون بمستويات رفيعة من المؤهلات و الخبرة.وينتمون لأكثر من 140 جنسية. يعملون في البلدان النامية كأخصائيين متطوعين وعمال ميدانيين. فهناك حوالى 74% من متطوعى الأمم المتحدة فى الوقت الحالى هم أنفسهم من مواطنى البلدان النامية، أما الباقين 26% فمن العالم الصناعى. يعملون في نحو 140 بلداً، أكثر من نصفهم يعملون في أفريقيا، و ربعهم في آسيا والباقى فى الدول العربية و الكاريبى وأمريكا الوسطى. يغطى برنامج متطوعى الأمم المتحدة مختلف المجالات، من بينها الزراعة، الصحة، التربية، الشؤون الإجتماعية، التدريب المهني، الصناعة، الإتصالات وتقنبة المعلومات. .يعمل البرنامج بالمشاركة مع الحكومات ووكالات الأمم المتحدة و بنوك التنمية والمنظمات غير الحكومية و منظمات المجتمعات المحلية. ويبلغ متوسط التكلفة لمهمة متطوعي الأمم المتحدة 30.000 دولار أمريكى فى العام. في سنة 2001 ظهرت فكرة سنة دولية للمتطوعين بعد مشاورات جرت بين العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية وكان الأساس الذي بنيت عليه السنة الدولية للمتطوعين 2001 هو أن الخدمة التطوعية أصبحت مطلوبة لمعالجة مجالات ذات أهمية أولية في ساحات اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، إنسانية و في تحقيق السلام.
-5 ولأن الكثيرين منا أو من خارج منظومتنا الدينية يريدون بلا شك معرفة مفهوم التطوع في الإسلام فسأختم مداخلتي هاته بالحديث عن العمل التطوعي في الإسلام. العمل التطوعي في مفهوم الشريعة الاسلامية هو كل جهد بدني أو فكري أو عقلي أو قلبي يأتي به الإنسان أو يتركه تطوعاً دون أن يكون ملزماً به لا من جهة المشرع ولا من غيره. مثال ذلك: كتابة العقود، وتغسيل الموتى، إماطة الأذى عن الطريق، إنقاذ الغرقى والهدمى والحرقى، إعانة في حالة خاصة كموت أو عرس أو سفر، كف الأذى عن الناس.هذه القيم الاجتماعية وخاصة الدينية المتجذرة في المجتمع العربي والإسلامي ساعدت في تعميق روح العمل التطوعي فيه بالإضافة إلى التراث الشعبي المنقول من خلال الأدب القصصي و الشعر والأمثال.
-6 وفيما يلي بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي توضح الحث على العمل التطوعي والذي هو بمثابة صدقة في الإسلام.
من القرآن الكريم·" وتعاونوا على البر والتقوى "· " ومن تطوع خيراً فهو خير له"·" وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"·
من الأحاديث الشريفة " إن لله عباداً اختصهم لقضاء حوائج الناس، حببهم للخير وحبب الخير إليهم، أولئك الناجون من عذاب يوم القيامة"·"لأن تغدو مع أخيك فتقضي له حاجته خير من أن تصلي في مسجدي هذا مائة ركعة"·" خير الناس أنفعهم للناس" والحديث يشير إلى نفع الناس أجمعين وليس نفع المسلمين فقط.·"المال مال الله والناس عيال الله وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله"·" تبسمك في وجه أخيك صدقة" وهذا يدل على أن التصدق المعنوي له مكانة كذلك في الإسلام وقد يكون البعض اشد حاجة له من التصدق المادي .وقد اتخذت الصدقة في الإسلام والدولة الإسلامية صورة مؤسسية في شكل الأوقاف في صورها المختلفة من خلال المساجد ،والوقف الاستثماري لدعم المساجد ودور العلم.
-7 نموذج 1 : تطوع ذو القرنين ببناء السد {حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا. قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدا. قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما. آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال انفخوا حتى إذا جعله نارا قال آتوني أفرغ عليه قطرا. فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا.} "سورة الكهف" .يأجوج ومأجوج أهل شر وفساد وقد حال الله بينهم وبين الإفساد في الأرض بسد ذي القرنين. كان بناء السد نعمة عظمى للبشرية وسبباً من أسباب هناء العيش على الأرض " قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجا أي أجراً عظيماً يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينه وبينهم سدا. فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير: " ما مكّني فيه ربي خير" أي إن الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خير لي من الذي تبذلونه ولكن ساعدوني بقوة أي بعملكم وآلات البناء " أجعل بينكم وبينهم ردما.
-8 نموذج آخر :تطوع الخضر في بناء الجدار-قال تعالى: " وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا " سورة الكهف .فرغم أن القرية منعت ضيافة الغرباء موسى وفتاه والخضر وكان اهلها بخلاء وغير ذي مروءة ،فإن ذلك لم يمنع الخضر من التطوع ببناء الجدار الذي كان آيلا إلى السقوط ومنفعة ذلك ستعود على أهل القرية جميعا وليس فقط على الغلامين.
-9 أمثلة وقدوات في العمل التطوعي في صدر الإسلام :
مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم في بناء المسجد النبوي :لما بنى النبي صلى الله عليه وسلم المسجد جاء أبوبكر بالحجارة وجاء عمر وجاء عثمان وكان الصحابة يحملون لبنة لبنة وعمار يحمل لبنتين لبنتين والنبي صلى الله عليه وسلم ينفض التراب عنه والصحابة رضي الله عنهم أجمعين يرتجزون وهم يشاركون في البناء.
حلب الخليفة الراشد أبي بكر الصديق لجواري الحي منائحهم :( وكان يحلب للحي أغنامهم ، فلما بويع بالخلافة قالت جارية من الحي : الآن لا تحلب لنا منائح دارنا ، فسمعها أبوبكر رضي الله عنه فقال : بلى والله لأحلبنها لكم ، وإني لأرجوا أن لا يغيرني ما دخلت فيه عن خلق كنت عليه ، فكان يحلب لهم فربما قال للجارية من الحي : يا جارية أتحبين أن أرغي لك (الحلب بحيث يأتي عليه الزبد ) أو أصرّح (الحلب بدون الزبد ) فربما قالت : أرغ وربما قالت: صرح فأي ذلك قالت فعل .
عمل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وزوجته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم أجمعين في مساعدة امرأة في المخاض :كان عمر رضي الله عنه على عادته يتفقد الناس ليلاً ونهاراً فإذا ببيت شعر ينبعث منه أنين امرأة وعلى بابه رجل قاعد فسلم عليه عمر وسأله من هو، فأجابه بأنه رجل من البادية جاء يصيب من فضل الله : فقال عمر ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت ،قال الرجل :انطلق رحمك الله لحاجتك ولا تسأل عما لا يعنيك فألح عليه عمر يريد معرفة الأمر فأجابه :امرأة تمخَض أي على وشك الولادة وليس عندها أحد فعاد عمر رضي الله عنه إلى منزله وقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما : هل لك في أجر ساقه الله إليك ؟ قالت : وما هو ؟ فأخبرها الخبر وأمرها أن تأخذ معها ما يحتاج إليه الوليد الجديد من ثياب وما تحتاج إليه المرأة وقدراً وحبوباً وسمناً . فجاءت به فحمل القدر ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت وقال لامرأته ادخلي إلى المرأة وجلس هو مع الرجل وأوقد النار وطبخ ما جاء به والرجل جالس لا يعلم من هو . وولدت المرأة فقالت أم كلثوم من داخل البيت : بشر يا أمير المؤمنين صاحبك بغلام ، فتهيب الأعرابي ، وأطعم عمر الرجل من الطعام الذي أعده وأعطى زوجته أم كلثوم فأطعمت المرأة النفساء وقال للرجل : إذا كان غداً فأتنا نأمر لك بما يصلحك فلما أصبح أتاه ففرض لابنه في الذرية وأعطاه .
عثمان بن عفان رضي الله عنه الخليفة الراشد الذي أحبه الله ورسوله والمؤمنون وقريش حال جاهليتها لبذله في كل وجوه العمل الخيري التطوعي .حيث كانت المرأة القرشية ترقص طفلها الصغير وتناغيه بقولها :أحبك والرحمن حب قريش عثمان.أمير المؤمنين
علي بن أبي طالب رضي الله عنه يكنس بيت المال بنفسه بعد أن يفرغه من كل صفراء وبيضاء ويصلي فيه يتخذه مسجداً رجاء أن يشهد له يوم القيامة .
وهكذا كان السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وعلماء الإسلام وقد أثر عن الإمام المزني وهو من كبار علماء الشافعية أنه كان محتسباً في تغسيل الموتى . ولا يزال هذا الموكب الإيماني حيا في دروب الأعمال التطوعية الصالحة. فتجد من يتطوع في تعليم الناس أمور دينهم من إلقاء الدروس والمحاضرات ابتغاء ما عند الله لا ما عند الخلق وتجد من ينتدب نفسه لمعالجة الفقراء والمعوزين وتجد من ينتدب نفسه لمساعدة العجزة وتجد من يدافع عن حقوق المظلومين والمأسورين والمقهورين.وتجد من احتسب في إيناس المرضى بزيارتهم وإدخال السرور عليهم.
أتمنى، وهذا سر اختياري لهذا الموضوع ،أن تكون هذه النماذج من تاريخنا حافزا لنا كأقليات مسلمة في بلاد الغرب ، نظهر عن جدارتنا في احتضان العمل التطوعي بجميع أشكاله وعلى كل المستويات وأن نبحث في تطوير إمكاناتنا ووسائلنا عبر التعاون مع الجمعيات والمؤسسات الطوعية، وان يكون لقاؤنا اليوم إعلانا عمليا للانخراط الفعلي في كل عمل تطوعي يستفيد منه الإنسان .. كل الإنسان .