إني سمعت قولاً، والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه مُلكُكُم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
هي السورة الثانية من الحواميم السبع. نزلت بعد سورة غافر.مكية بالإجماع، عدد آياتها 54 آية.وقد يطلق عليها (حم السجدة) تمييزاً لها من السورالمفتتحة بحروف {حم}.
المناسبة:
قال ابن إسحاق : وحدثني يزيد بن زياد ،عن محمد بن كعب القرظي ،قال : حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيدا ،قال يوما وهو جالس في نادي قريش ،ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده، يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيها شاء ويكف عنا. فقالوا: بلى يا أبا الوليد. قم إليه فكلمه فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من الشرف في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قل يا أبا الوليد أسمع. قال: يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمرمالاً جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً،وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك،وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا،وإن كان هذا الذي يأتيك رُؤى تراه لا تستطيع رده عنك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (أي الصاحب من الجن) على الرجل حتى يُدَاوى منه، حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال نعم، قال فاسمع مني. قال: أفعل).
بسم الله الرحمن الرحيم: {حم 1 تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2 كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ 4 وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌوَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ 5 قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِين ...}ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، وعتبة منصت أصابته الدهشة من هول ما يسمع،وألقى يديه خلف ظهره، معتمداً عليها يسمع، وقيل: أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تعالى: "فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عادٍ وثمود .." ما تحمّل عتبة،فقام وأمسك على فم الرسول صلى الله عليه وسلم وناشده الرّحم أن يكفّ عنه.ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآيات حتى انتهى إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال له: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك). فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد، بغير الوجه الذي ذهب به. فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال: ورائي، إني سمعت قولاً، والله ما سمعت بمثله قط، والله ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا بالكهانة يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت منه نبأ عظيم، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه مُلكُكُم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم.
مقاصدها
ذكر أهل العلم والتفسير ما تضمنته هذه السورة من مقاصد ومن ذلك :
-الإعلام بأن العلم إنما هو ما اختاره الله ،المحيط بكل شيء ، علم من علمه لعباده، فشرعه لهم، فجاءتهم به عنه رسله. وذلك العلم هو الحامل على الإيمان بالله، والاستقامة على طاعته. المقترن بهما، النافع في وقت الشدائد، وهذا مستفاد من قوله سبحانه في السورة: {إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه} (فصلت:47).
- بيان شرف القرآن، وإعراض الكفار من قبوله، وكيفية تخليق الأرض والسماء، والإشارة إلى إهلاك عاد وثمود، وشهادة الجوارح على العاصين في القيامة، وعجز الكفار في سجن جهنم، وبشارة المؤمنين بالخلود في الجنان، والاحتراز من نزغات الشيطان، والحجة والبرهان على وحدانية الرحمن، وبيان شرف القرآن، والنفع والضر، والإساءة، والإحسان، وجزع الكفار عند الابتلاء والامتحان، وإظهار الآيات الدالة على الذات والصفات الحسان، وإحاطة علم الله بكل شيء من الإسرار والإعلان، بقوله: {ألا إنه بكل شيء محيط} (فصلت:54)".
- يجري سياق السورة بموضوعاتها ومؤثراتها في فقرتين:
الفقرة الأولى: يبدأ بالآيات التي تتحدث عن تنزيل الكتاب وطبيعته وموقف المشركين منه. وتليها قصة خلق السماء والأرض. فقصة عاد وثمود. فمشهدهم في الآخرة، تشهد عليهم الأسماع والأبصار والجلود. ومن هنا يرتد إلى الحديث عنهم في الدنيا، وكيف ضلوا هذا الضلال، فيذكر أن الله قيض لهم قرناء سوء من الجن والإنس، يزينون لهم ما بين أيديهم وما خلفهم. ومن آثار هذا قولهم: {لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} (فصلت:26). ثم موقفهم يوم القيامة حانقين على هؤلاء الذين خدعوهم من قرناء الجن والإنس! وعلى الضفة الأخرى {الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} (فصلت:30). وهؤلاء تتنزل عليهم الملائكة -لا قرناء السوء- يطمئنونهم، ويبشرونهم ويعلنون ولايتهم لهم في الدنيا والآخرة. ويلي هذا ما جاء عن الدعوة والداعية.
الفقرة الثانية: يتحدث عن آيات الله من الليل والنهاروالشمس والقمروالملائكة العابدة، والأرض الخاشعة، والحياة التي تهتز فيها وتربو بعد الموات. ويلي هذا الحديث عن الذين يلحدون في آيات الله وفي كتابه، وهنا يجيء ذلك الحديث عن هذا الكتاب.ويشارإلى كتاب موسى عليه السلام، واختلاف قومه فيه. ويوكل أمرهم إلى الله بعد الأجل المضروب.وحديث عن الساعة واختصاص علم الله بها، وعلمه بما تكنه الأكمام من ثمرات، وما تكنه الأرحام من أنسال. ويعرض مشهد الكافرين وهم يسألون عن الشركاء. ثم يلي هذا الحديث عن النفس البشرية عارية من أستارها. ومع حرص الإنسان على نفسه هكذا، فإنه لا يحتاط لها فيكذب ويكفر، غير محتاط لما يعقب هذا التكذيب من دمار وعذاب.
وتختم السورة بوعد من الله أن يكشف للناس عن آياته في الأنفس والآفاق حتى يظهر للجميع الحق ظهورالشمس في وضح النهارـ {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ، أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ 53 أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ. 54} وفسرت الآيات هنا تفسيرات كثيرة منها:
ـ أنها الفتوحات الاسلامية وانتصار المسلمين ( بعددهم القليل ،على جيوش عظيمة كالفرس والروم).
ـ أنها اكتشاف ما في هذه المخلوقات من سنن وقوانين التي سيطلعهم الله عليها زمانا بعد زمان وجيلا بعد جيل. والتقدم العلمي هو مفتاح تلك الأبواب ، وهذا كله غيب سيقع بعلم الله والله مطلع عليه وشاهد وشهيد أنه سيقع ،وأنتم لا زلتم في (مرية) شك من لقاء ربكم يوم القيامة وهو سبحانه بكل شيء محيط .والمحيط بكل شيء يلزم عقلا أنه قادرعلى كل شيء،سميع لكل شيء ، بصير بكل شيء، سبحانه.
( دروس الأندلس / ذ.محمد الجابري / 31 مارس 2020 )