هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائرالسور المكية، وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها. ومن وراء التركيزعلى حقيقة الوحي والرسالة ، يبرزهدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع. هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشَّرين ممثلة في الرسالة الأخيرة،ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم.
هي السورة 42 بحسب ترتيب المصحف العثماني،وعدد آياتها 53 آية. مكّيةٌ باتّفاق أهل العلم، باستثناء بعض آياتها، وابتدأ نزول آياتها في السنة الثامنة بعد البعثة، ويرجّح أهل العلم أنّ نزولها استمر إلى السنة التاسعة من البعثة. ووجه تسميتها بـ (الشورى) تضمنها آية تصف المؤمنين أن أمرهم شورى بينهم، لبيان أهميّة الشُّورى، وفضلها بين المسلمين، وحثّاً لهم على اتّخاذها سبيلاً ومنهجاً في الحياة العامّة؛ لِما لها من عظيم الأثر في حياة الفرد والجماعة،قال سبحانه: {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} (الشورى:38)
من أسباب النزول :
جاءت روايات عدّة تذكرارتباط نزول بعض الآياتٍ بسبب وحدث معيّن، منها ،القول الأوّل: ورد عن ابن المنذرعن عكرمة أنّ قول الله تعالى: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّـهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) نزلت بعد تحدُّث المشركين عن دخول الناس أفواجاً في دين الله بعد نزول سورة النصر،وقِيل أنها نزلت في أهل الكتاب؛ بسبب قَوْلهم للمسلمين: "كتابنا قبل كتابكم، ونبيّنا قبل نبيّكم، ونحن خيرٌ منكم". القول الثاني: ورد في سبب نزول قول الله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّـهِ كَذِبًا فَإِن يَشَإِ اللَّـهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّـهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ*وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ*وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ)، أنّه نزل في الفقراء من المسلمين الذين لا يملكون بيوتاً، وقد أخرج ذلك الحاكم، والطبرانيّ عن عمرو بن حُريث، وقِيل إنّ الآيات السابقة نزلت في الأنصار؛ لِما ورد بأثرٍ ضعيفٍ عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: (قالت الأنصارُ: لو جمعنا لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مالًا، فأنزل الله: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}، فقال بعضُهم: إنَّما قال هذا ليُقاتِلَ عن أهلِ بيتِه وينصرَهم، فأنزل اللهُ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، إلى قولِه: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} فعرض لهم التَّوبةَ، إلى قولِه: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}
مقاصد السورة
لخص سيد قطب رحمه الله مقاصد هذه السورة بقوله: "هذه السورة تعالج قضية العقيدة كسائرالسور المكية، ولكنها تركز بصفة خاصة على حقيقة الوحي والرسالة، حتى ليصح أن يقال: إنها هي المحور الرئيسي الذي ترتبط به السورة كلها، وتأتي سائر الموضوعات فيها تبعاً لتلك الحقيقة الرئيسية فيها. ومن وراء التركيزعلى حقيقة الوحي والرسالة في سياق السورة كله، يبرزهدف خاص لعرضها على هذا النحو وفي هذا التتابع. هذا الهدف هو تعيين القيادة الجديدة للمبشَّرين ممثلة في الرسالة الأخيرة،ورسولها، والأمة المسلمة التي تتبع نهجه الإلهي الثابت القويم. السورة تتوسع في الحديث عن حقيقة الوحدانية، وتعرضها من جوانب متعددة، كما أنها تتحدث عن حقيقة القيامة والإيمان بها، ويأتي ذكرالآخرة ومشاهدها في مواضع متعددة منها. وكذلك تتناول عرض صفات المؤمنين وأخلاقهم التي يمتازون بها. كما تلم بقضية الرزق: بسطه وقبضه، وصفة الإنسان في السراء والضراء".
تفصيل مقاصد السورة:
*الإشارة إلى تحدي الطاعنين في أن القرآن وحي من الله بأن يأتوا بكلام مثله، فهذا التحدي لا تخلو عنه السور المـُفْتَتَحة بالحروف الهجائية المقطعة، وهذه السورة منهم؛ حيث تضمنت فاتحتها خمسة حروف مقطعة.
*بيان أن الوحي إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ما هو إلا كالوحي إلى الرسل من قبله؛ لينذر أهل مكة ومن حولها بيوم الحساب.
*بيان أن الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض لا تُعَارَض قدرتُه،ولا يُشك في حكمته وقد خضعت له العوالم العليا ومن فيها، وهو فاطر المخلوقات؛ فهو يجتبي من يشاء لرسالته، فلا بِدْع أن يشرع للأمة المحمدية من الدين مثل ما شرع لمن قبله من الرسل، وما أرسل الله الرسل إلا من البشر يوحي إليهم، فلم يسبق أن أرسل ملائكة لمخاطبة عموم الناس مباشرة.
*بيان وحدة الرسالات الربانية في أصولها الاعتقادية، والأخلاقية، وفي أصول وقواعد المعاملات. ومطالبة الناس بأن يقيموا الدين، ولا يتفرقوا فيه.
*أن المشركين بالله لا حجة لهم إلا تقليد أئمة الكفر، الذين شرعوا لهم الإشراك، وألقوا إليهم الشبهات. والتحذير من اقتراب الساعة ويوم الجزاء، وما سيلقى المشركون يوم الحساب من العذاب، وقرن ذلك بالترغيب فيما سيلقاه المؤمنون من الكرامة، وأنهم لو تدبروا لعلموا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يأتي عن الله من تلقاء نفسه؛ لأن الله لا يقره على أن يقول عليه ما لم يقله.
*ذِكْر دلائل الوحدانية، وما هو من تلك الآيات نعمة على الناس، مثل دليل السير في البحر، وما أوتيه الناس من نِعَم الدنيا.
*تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله هو متولي جزاء المكذبين، وما على الرسول صلى الله عليه وسلم من حسابهم من شيء، فما عليه إلا الاستمرار على دعوتهم إلى الحق القويم.
*التنبيه على أنه صلى الله عليه وسلم لا يبتغي من وراء دعوته ونصحه إياهم جزاء ولا شكوراً، وإنما يبتغي هدايتهم إلى الحق المبين، ودلالتهم إلى الصراط المستقيم.
*بيان حكمة الله سبحانه في عدم بسط الرزق لعباده، وأنه هو الذي يهيئ للناس أسباب أرزاقهم، على وفق حكمته، وأن سبحانه هو وحده الذي يتولى أمور عباده، ويتدبر شؤونهم.
*التزهيد بمتاعات الحياة الدنيا وزخرفها، والترغيب بما عند الله في الآخرة من النعيم المقيم. وتوجيه الناس إلى الاستجابة لربهم، وتحذيرهم من يوم الدين الذي لا مرد له، ولا ملجأ فيه يلجأ إليه من لم يجب داعي الله، ويلزم هديه، ويعمل بشرعه.
*تذكير المشركين والمعرضين بنعم الله عليهم، وتحذيرهم من التسبب في قطعها بسوء أعمالهم، وتحريضهم على السعي في أسباب الفوز في الآخرة، والمبادرة إلى ذلك قبل فوات الأوان.
*التنويه بفوزالمؤمنين المتوكلين،والتذكير بجلائل أعمالهم،وتجنبهم التعرض لغضب الله عليهم .
*التنبيه على آيات كثيرة من آيات انفراده تعالى بالخلق، والتصرف المقتضي انفراده بالإلهية؛ إبطالاً للشرك.
*ألمحت السورة إلى المعجزة الأمية؛ بأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءهم بهدي عظيم من الدين، وقد علموا أنه لم يكن ممن تصدى لذلك في سابق عمره، وذلك أكبر دليل على أن ما جاء به أمر قد أوحي إليه به، فعليهم أن يهتدوا بهديه، فمن اهتدى بهديه فقد وافق مراد الله.
*ختم السورة بكلمة جامعة تتضمن تفويض الأمور كلها إلى الله سبحانه، وانتظار حكمه فيما يمضيه من أمور، وهي كلمة {ألا إلى الله تصير الأمور}(الشورى:53).
فضل سورة الشورى: وردت عدّة أحاديث في بيان فضل سورة الشُّورى، ومنها: ما رُوي عن المُهلّب بن أبي صُفرة، أنّه سَمِعَ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- يقول: (إِنَّكم ستلْقَوْنَ العدُوَّ غدًا، فلْيَكُن شعارُكم حَم لَا يُنصرونَ) كما رُوِي عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنها- أنّه قال: (أتى رجلٌ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فقالَ: أقرِئني يا رسولَ اللَّهِ، قالَ لَهُ: اقرَأ ثلاثًا من ذاتِ الر، فقالَ الرَّجلُ: كبِرَت سنِّي، واشتدَّ قلبي، وغلُظَ لساني، قالَ: فاقرأ مِن ذاتِ حم).
( دروس الأندلس / ذ.محمد الجابري / 18 فبراير 2023 )