سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها، في إيقاع سريع متواصل؛ تهجم عليه بإيقاعها، كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع، وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض، والدنيا والآخرة، والجحيم والجنة، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة، والموت والحياة، وسنن الخلق ونواميس الوجود.
هي السورة الخامسة من (الحواميم) السبع. نزلت بعد سورة الزخرف،وهي مكية كلها في قول الجمهور.
تسميتها:تسمى بسورة الدخان وسورة (حم الدخان) وهما بمنزلة اسم واحد؛ لأن كلمة {حم} غير خاصة بهذه السورة، فلا تعد عَلَماً لها؛ ووجه تسميتها بـ (الدخان) وقوع لفظ الدخان فيها في قوله سبحانه: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين) المراد به آية من آيات الله، أيد الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك سميت به اهتماماً بشأنه، وإن كان لفظ (الدخان) بمعنى آخر قد وقع في سورة (فصلت) في قوله عزوجل:(ثم استوى إلى السماء وهي دخان} (فصلت:11}.
مقاصدها :
يكاد سياق السورة أن يكون كله وحدة متماسكة، ذات محور واحد، تُشَدُّ إليه خيوطها جميعاً. سواء في ذلك القصة، ومشهد القيامة، ومصارع الغابرين، والمشهد الكوني، والحديث المباشر عن قضية التوحيد والبعث والرسالة، فكلها وسائل ومؤثرات لإيقاظ القلب البشري، واستجاشته لاستقبال حقيقة الإيمان حية نابضة، كما يبثها هذا القرآن في القلوب. وقد لخص الشهيد سيد قطب رحمه الله مقاصد هذه السورة بقوله: " إنها سورة تهجم على القلب البشري من مطلعها إلى ختامها، في إيقاع سريع متواصل؛ تهجم عليه بإيقاعها، كما تهجم عليه بصورها وظلالها المتنوعة المتحدة في سمة العنف والتتابع، وتطوف به في عوالم شتى بين السماء والأرض، والدنيا والآخرة، والجحيم والجنة، والماضي والحاضر، والغيب والشهادة، والموت والحياة، وسنن الخلق ونواميس الوجود...فهي -على قصرها نسيباً- رحلة ضخمة في عالم الغيب وعالم الشهود".
أسباب النزول:
كثير من سور القرآن الكريم لم يرد فيها أسباب نزول مباشرة إلا أنَّ الفقهاء وأهل علوم القرآن قد أعطوا هذا الباب أهمية كبيرة، نظرًا لأهميَّته في تفسير القرآن نفسه وفهم معانيه والاقتراب أكثر من حقيقة النص، وقد وردَ في كتب التفسير أسباب نزول سورة الدخان كما وردَت عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- في الحديث الصحيح أنَّه قال: "إنَّما كانَ هذا، لأنَّ قُرَيْشًا لَمَّا اسْتَعْصَوْا علَى النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- دَعَا عليهم بسِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ، فأصَابَهُمْ قَحْطٌ وجَهْدٌ حتَّى أكَلُوا العِظَامَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْظُرُ إلى السَّمَاءِ فَيَرَى ما بيْنَهُ وبيْنَهَا كَهَيْئَةِ الدُّخَانِ مِنَ الجَهْدِ، فأنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَومَ تَأْتي السَّمَاءُ بدُخَانٍ مُبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذَابٌ ألِيمٌ}، قالَ: فَأُتِيَ رَسولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ- فقِيلَ له: يا رَسولَ اللَّهِ: اسْتَسْقِ اللَّهَ لِمُضَرَ، فإنَّهَا قدْ هَلَكَتْ، قالَ: لِمُضَرَ؟، إنَّكَ لَجَرِيءٌ، فَاسْتَسْقَى لهمْ فَسُقُوا، فَنَزَلَتْ: {إنَّكُمْ عَائِدُونَ}، فَلَمَّا أصَابَتْهُمُ الرَّفَاهيةُ عَادُوا إلى حَالِهِمْ حِينَ أصَابَتْهُمُ الرَّفَاهيةُ، فأنْزَلَ اللَّهُ -عزَّ وجلَّ-:{يَومَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الكُبْرَى إنَّا مُنْتَقِمُونَ}،قالَ: يَعْنِي يَومَ بَدْرٍ"،ولكنَّ الصحابة لم يكونوا جميعًا على هذا الرأي الذي ذكره ابن مسعود، مع أنَّ كثيرًا من المفسرين وافقه الرأي مثل: مجاهد والضحَّاك وإبراهيم النخعي، حيثُ يرى فريقٌ آخرأنَّ الدخان المقصود في السورة هو أحد علامات الساعة الكبرى التي لم تظهر بعد، وقد ذكرَ ذلك علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وجمع كبير من التابعين،وقد رجَّحَ ابن كثيرهذا القول. والله تعالى أعلم.
من مقاصدها:
- تبدأ السورة بالحديث عن القرآن وتنزيله في ليلة مباركة، رحمة من الله بالعباد، وإنذاراً لهم وتحذيراً.
- تعريف للناس بربهم، رب السماوات والأرض وما بينهما، وإثبات لوحدانيته، وهو المحيي المميت رب الأولين والآخرين.
- بيان فضل الليلة التي أُنزل فيها القرآن، أي ابتدئ إنزاله، وهي ليلة القدر. وذكر جملة من دلائل الوحدانية، وتأييد الله من آمنوا بالرسل.
- الحديث عن القرآن وموقف الكافرين منه إبان التنزيل، وإصرارهم على الشك في القرآن، لاعبين بأمور دنياهم، وتحذيرهم من عقوبات تلجئهم إلى الوعد بالإيمان، إذا كشف الله عنهم العذاب، لكنهم لا يَفون بوعدهم، بل ينقضونه، ويتمادون في غيهم، وأخيراً ينذرهم الله بأن يبطش بهم بطشة كبرى منتقماً منهم.
- بيان أن المعرضين عن تدبر القرآن ألهاهم الاستهزاء واللمزعن التدبر، فحق عليهم دعاء الرسول بعذاب الجوع؛ إيقاظاً لبصائرهم بالأدلة الحسية حين لم تنجع فيهم الدلائل العقلية؛ ليعلموا أن إجابة الله دعاء رسوله صلى الله عليه وسلم دليل على أنه أرسله ليبلغ عنه مراده.
- ضَرْبُ المثل بأمم قد خلت، عصوا رسل الله إليهم، فحلَّ بهم من العقاب ما من شأنه أن يكون عظة لمن بعدهم؛ تفصيلاً بقوم فرعون مع موسى ومؤمني قومه، ودون التفصيل بقوم تُبَّع، وإجمالاً وتعميماً بالذين من قبل هؤلاء.
- بيان موجزعن بني إسرائيل بعد أن أنجاهم الله من العذاب المهين، الذي كانون يعانونه في مصر .
- بيان موقف مشركي مكة إبان التنزيل من إنكارالآخرة والبعث، ومجادلتهم بالإقناع وبالإنذار بيوم الدين.
- تضمنت السورة حديثاً عن شجرة الزقوم في الجحيم، التي يكون منها طعام الأثيم، وعرض مشهدين من مشاهد يوم القيامة
الأول: يتضمن بيان صنف من أصناف عذاب الكافرين المجرمين في الجحيم. : قال تعالى: {إنَّ شَجرَتَ الزقُّومِ * طعامُ الأثِيمِ * كالمُهْلِ يغْلِي في البطُونِ * كغلْيِ الحمِيمِ * خذوهُ فَاعتِلوهُ إلَى سَواءِ الجحِيمِ * ثمَّ صبُّوا فَوقَ رَأسهِ منْ عَذابِ الحمِيمِ * ذقْ إنَّكَ أنْتَ العزِيزُ الكرِيمُ * إنَّ هَذا ما كُنتمْ بهِ تَمترُونَ}
الثاني: يتضمن بيان بعض نعيم المتقين في جنات النعيم قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ * فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ}.
- خطاب من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم بشأن القرآن الكريم، وتيسيره بلسانه العربي المبين، وإلماح ببشارته بأنه منصور بنصر الله له، وبأن المشركين المعاندين مخذولون، وبأن الله سينتقم منهم يوم الدين .
( دروس الأندلس / ذ.محمد الجابري / 7 اكتوبر 2023 )